لا توجد تسمية لحقبة زمنية تسمى «العصر الصدفي» (نسبة للأصداف) وإنما لمح بعض الكتاب لوجود عصر «صدفي» سابق للعصر الحجري، وربما، في بعض المناطق الساحلية، لا يوجد بها عصر حجري بل إن العصر «الصدفي» يبقى سائداً فيها. هكذا بدأ Wilson الحديث عن الشعوب القديمة على سواحل عمان وذلك في كتابه عن الخليج العربي الذي نشر للمرة الأولى في العام 1928م، ويرى Wilson أن الأصداف البحرية استخدمت منذ القدم في المناطق الساحلية لتصنيع العديد من الأدوات المختلفة عوضاً عن الأحجار، حتى زعم بعض الكتاب أن المناطق المطلة على ساحل المحيط الهندي عاشت «عصراً صدفياً» قبل أن تعيش عصراً حجرياً (Wilson 2011, p. 20). وقد عثر على سواحل عمان والإمارات العربية على العديد من الأدوات الصدفية التي تثبت بوضوح وجود ثقافة خاصة بالأصداف البحرية، وقد نُشرت العديد من الدراسات المتخصصة حول الأصداف في هذه المناطق، أهمها، تلك الدراسات التي نشرها أفراد من البعثة الفرنسية التي تنقب في تلك المناطق، وبالتحديد دراسات Vincent Charpentier و Sophie Mery، المشتركة منها والمنفصلة. وتعطي هذه الدراسات الإطار العام للصناعات الصدفية على سواحل الخليج العربي منذ الألفية السادسة قبل الميلاد.
وعلى رغم قلة الدراسات التي تناولت الأصداف في الحقب القديمة في البحرين، إلا أنه يمكن مقارنة النتائج التي حصل عليها في البحرين بتلك التي عثر عليها في مناطق أخرى في الخليج العربي. ومن المحتمل وجود ورشة عمل للأدوات الصدفية في البحرين، فقد عثر في موقع سار الأثري على العديد من البقايا الصدفية المصنعة وغير المصنعة (Killik and Moon 2005, pp. 176 - 177). ولكن، للأسف الشديد فإن اللقى الصدفية في البحرين لم تلقَ تلك الرعاية؛ فلم تجرَ دراسات تحليلية، كمية ونوعية، كتلك التي أجريت في عمان والإمارات العربية؛ وبذلك لا يمكن رسم نتائج قطعية حول هذه الأدوات، بما في ذلك الأختام الصدفية التي عثر عليها في العديد من القبور الدلمونية، فهل هذه الأختام هي فعلاً أختام في حقيقتها؟ أم هي مجرد تطوير للأقراص الصدفية التي استعملت كحلي تعليق في العديد من الثقافات القديمة في الخليج العربي وغيرها من المناطق. في هذا الفصل سنعطي الإطار العام للصناعات الصدفية في الخليج العربي، وفي ضوء ذلك، سنحاول تحليل اللقى الصدفية في البحرين.
الصناعات الصدفية في الخليج العربي
الأصداف، بالإضافة لكونها مصدراً للغذاء، فقد استخدمت في تصنيع العديد من الأدوات مثل: أدوات القطع، وأدوات صيد الأسماك أو ما يلحق بها، وأدوات التجميل أو تزين الملابس، واستعمالها كأوعية، وكذلك صنع منها الأختام الأسطوانية والدائرية. بالإضافة إلى ذلك، فإن للأصداف نوعاً من الأهمية الطقسية الاجتماعية في المجتمعات القديمة؛ حيث إنها كانت تدفن في القبور كنوع من التمائم أو التعويذات أو كعلامة على ثراء صاحب القبر، ومن هذه الأدوات الصدفية، على سبيل المثال، الأقراص أو الحلقات الصدفية التي تصنع من القواقع القمعية وهي شبيهة تماماً بما سمي بالأختام الصدفية، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في فصول لاحقة.
وقد سبق أن ذكرنا في الفصل السابق أن الشعوب القديمة التي سكنت سواحل الخليج العربي اصطادت محار اللؤلؤ لتستخرج اللؤلؤ منه. أما فيما يخص الأصداف التي تؤكل فهي موحدة في الخليج العربي وأهمها الدوك والكوز وقد تناولناها بالتفصيل، أيضاً، في فصول سابقة. وبقي أن نعطي لمحة تعريفية بالاستخدامات الأخرى للأصداف قديماً.
الدوك وصناعة السكين الصدفية
سبق أن ذكرنا أن الدوك عبارة عن أنواع متعددة من المحار ينتمي لعائلة Veneridae وهي تستخدم كمصدر للغذاء، إلا أن بقايا أصدافها يمكن أن تصنع منها أدوات للقطع. وقد أفرد Charpentier دراسة منفصلة حول استعمال هذه الأصداف في اليمن وعمان والإمارات العربية (Charpentier et. al. 2004). في هذه الدراسة تم جمع بقايا أصداف الدوك التي لوحظ عليها وجود تحوير لأحد جوانبها (كوجود حزوز مصنعة للقطع) وذلك من العديد من المواقع الأثرية من الدول الثلاث السابقة والتي تعود للفترة الزمنية ما بين 4200 و850 قبل الميلاد. وقد لوحظ أن جميع بقايا هذه الأصداف المحورة هي الصدفة اليسرى. يذكر أن الأصداف تتكون من صدفتين غير متطابقتين تلتصقان ببعضها البعض، تسمى إحداها الصدفة اليسرى والأخرى الصدفة اليمنى. إن العثور على الصدفة اليسرى فقط بصورة محورة للقطع لا يمكن أن يكون صدفة، وإنما يشير بالتأكيد أن هذه الصدفة اليسرى أكثر تكيفاً مع وضعية اليد لكي تستخدم لأداة للقطع (كما هو موضح في الصورة) أفضل من الصدفة اليمنى (Charpentier et. al. 2004). إن بقايا أصداف الدوك سائدة في المواقع الأثرية في البحرين لكنها لم تخضع لتحليل كافٍ ليحكم عليها أنها أدوات للقطع أم بقايا الأصداف التي تم استعمالها كغذاء.
الأصداف وأدوات صيد الأسماك
استخدمت الأصداف في تصنيع عدد من الأدوات الداخلة في عملية صيد الأسماك وهي تتمثل في خطاطيف صنارة صيد الأسماك والأثقال التي تستخدم لخيوط وشباك الصيد؛ وقد عثر على العديد من الخطاطيف الصدفية في العديد من المواقع الأثرية على سواحل عمان والإمارات العربية والتي تعود للحقبة الزمنية 5100 ـ 4300 قبل الميلاد، وجميعها مصنعة من أصداف محار اللؤلؤ الكبير Pinctada margaritifera والذي يعرف محلياً باسم «الصديفي» (Mery et. al. 2008). وقد استعملت أنواع أخرى من الأصداف كأثقال للشباك، وتم تصنيع أثقال صدفية صغيرة كروية الشكل تستعمل في خيوط صيد الأسماك (Mery and Charpentier 2002).
الأوعية الصدفية
استخدمت القواقع الكبيرة كنوع من الأوعية مثل النوع Lambis truncata الذي عثر عليه في مواقع في حضارة وادي الرافدين وعمان والبحرين، ويذكر أن هذا النوع يتواجد بصورة أساسية على السواحل العمانية، والعثور عليه في المواقع الأخرى دليل وجود تجارة خاصة بهذه الأنواع من القواقع (Gensheimer 1984) و (Mery and Charpentier 2002). وقد عثر على هذا النوع من القواقع في القبور الدلمونية وفي موقع سار الأثري (Green 2004) و (Killik and Moon 2005, pp. 176 - 177).
مما سبق يلاحظ بوضوح وجود ثقافة خاصة بالأصداف منذ الألفية السادسة قبل الميلاد على سواحل الخليج العربي، ولا يستبعد وجود عصر صدفي بحسب ترجيح البعض (Charpentier et. al. 2004)، وإن ما عثر عليه في البحرين يمثل امتداداً لتلك الثقافة المتجذرة على سواحل الخليج العربي.
العدد 3990 - الجمعة 09 أغسطس 2013م الموافق 02 شوال 1434هـ