يتجه كثيرٌ من الناس إلى العيش في حياة تسطّرها لهم كتب الشعر والأدب، ويرسمها لهم الشاعر والأديب، أو السيناريست الذي استطاع أن ينقل أحلامهم في مسلسل أجاد المخرج إبرازه بما يتماشى والذوق العام للجماهير الحديثة، وأجاد ممثلوه إظهاره وكأنه واقع؛ ذلك لأن حياة هؤلاء الهاربين الواقعية لم تأتِ وفق أمزجتهم ولم يستطيعوا أو يحاولوا تغييرها.
أقول لم يستطيعوا تغييرها، لأن بعض شئون الحياة مرتبطةٌ بالآخرين تارةً وبالفرد نفسه تارةً أخرى؛ فالإنسان قادرٌ وحده على تغيير حياته فيما يخص الحياة العلمية والعملية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها متى ما أراد واجتهد وأصر، لكنه قد يعجز عن تغيير حياته السياسية على سبيل المثال وحيداً؛ كون السياسة في يد جماهيرٍ وليست في يد شخصٍ واحدٍ، وتغييرها بحاجةٍ لإرادةٍ جمعيّةٍ تستطيع أن تضغط باتجاه تحقيق ما تطمح إليه.
وأقول إن هناك من لم يحاولوا تغيير حياتهم، ذلك لأن هنالك بالفعل شريحة من المجتمع كذلك، أقصى ما تفعله هو التذمّر على واقعها الذي لم يرق لها يوماً، ولم تحاول تغييره إلا في حلمها. هؤلاء الأشخاص اعتادوا أن يكونوا في موضع الحانق المتذمر، ولم يجتهدوا كي يكونوا في موضع القيادي الذي يخوض المستحيلات ليفنّدها ويبدّدها ويغيّر حياته لتصبح كما يريد لا كما تبدو.
هؤلاء أغلقوا آذانهم وأعينهم وعقولهم كي لا يستمعوا أو يقرأوا أو يفقهوا قصص التاريخ، ولم يضعوا أنفسهم مكان من فكّر وقرّر ونفّذ ليكون يوماً ما يريد. فالتاريخ مليء بالنماذج هذه، والحياة من حولهم بالطبع مليئة أيضاً، بدءاً من الأشخاص ذوي الإعاقة ممن لم يكونوا سجناء أجسادهم التي لم يخلقها الله كما تمنوا، لكنهم تعايشوا معها وجعلوا منها وسيلةً لتميّزهم، مروراً بالفقراء المعدمين الذين قرّروا أن يجتهدوا ليصبحوا يوماً من أغنى أغنياء بلدانهم، بل ومن أغنى أغنياء العالم، وصولاً لأولئك السياسيين الذين قضوا نصف أعمارهم أو يزيد أحياناً في المعتقلات، لرأي أبدوه، أو مقترح اقترحوه، أو طموح بالإصلاح والتغيير لم يكن على أمزجة الرؤساء في بلدانهم، فأصبحوا بعد ذلك قياديين في دولهم وتقلّدوا أعلى المناصب بجهودهم وعرق جباههم، وبسواعدهم وعقولهم التي ناضلت وصبرت فنجحت، وليس انتهاءً بمن تعثرت بهم حياتهم العلمية فأكملوا دراساتهم العليا وهم في سن متقدمة جداً تفوق السبعين أحياناً، كما نقرأ بين فترةٍ وأخرى في الصحف العالمية، ليصبحوا رموزاً في مشوار النضال العلمي.
وبين الراغبين في تغيير حياتهم لتغدو كما حلموا بها بمشيئة الله وعملهم وجدهم، وبين الراغبين في تغييرها من غير أن يعملوا ليصلوا لهذا الهدف، مسافة السماء والأرض... فما أجمل أن يحلّق المرء في سماء النجاح الذي يحقّقه له إصراره وعمله.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3988 - الأربعاء 07 أغسطس 2013م الموافق 29 رمضان 1434هـ
موضوع ممتاز
احسنت ايتها الكاتبة متمنيا لك وللبحرينيين جميعا الفرج والنجاح لكل ابنائها المخلصين