لا أخفيكم أنّي بحثت عن البسمة التلقائية والصادقة منذ نزلت إلى تونس أوائل الصيف، فلم أظفر بها على وجوه الناس البسطاء وفي مُحيّا الأصدقاء. لم أجدها كما عهدتها ولا كما أحبها ولا كما يجب أن تكون، لم أجدها ولم تَجُدْ بها عليّ الوجوه التي قابلتها لأن الجميع يشعر بصعوبة المرحلة وخطورة الانتقال الديمقراطي الذي لم نعهده؛ مرحلة اختلط فيها الحابل بالنابل، وضاعت ملامحها الجميلة بفعل التنازع السياسي بين الأحزاب والمنظمات والحكومة الانتقالية والرئيس المؤقت ذي الصلاحيات المحدودة والمجلس التأسيسي المنهك بالصراعات والبحث عن التوافقات الصعبة في بلدٍ يريد كل الفاعلين السياسيين فيه أن يثبتوا له هويّة معيّنة ما بعد الثورة.

ولئن لا يشكّ التونسيون لحظةً في صدق الكثير من الرجال الوطنيين، فإنهم وبعد سنتين أخذ يدبّ فيهم إحساس بأن البلد صار مسرحاً للصراع بين ثلاثة أطراف كبرى: المعارضة ومن يساندها من المنظمات، والسلطة في تحالفها التاريخي بين أحزاب الترويكا، والدولة العميقة التي ساد اعتقاد راسخ لدى التونسيين أن رموزها يحرّكون قطع الشطرنج بما يخدم مصالحهم ويجهض أحلام الذين خرجوا للتغيير منذ ديسمبر/كانون الأول 2010.

وبقيت أبحث عن الابتسامة المفقودة والمعهودة عند التونسيين حتى اقترب موعد الاحتفال بعيد الجمهورية، حيث دعت العديد من الجمعيات والمنظمات، كما الحكومة وأحزاب المعارضة، إلى رفع علم البلاد المفدى على واجهات البيوت والمحلات التجارية وفي كل الساحات. وفعلاً استجاب العديد من التونسيين للنداء لعلهم ينشرون الفرحة بتلك المناسبة في الخامس والعشرين من يوليو/تموز الماضي، لكن يد الغدر أبت إلاّ أن تسرق من جديد هذه الفرحة فكان الاغتيال السياسي للمناضل الشهيد محمد البراهمي، وكانت الدمعة بديلاً عن الفرحة، وازداد التونسيون ألماً وحرقةً، ونُكّست الأعلام بدل أن ترفع.

وفي الوقت الذي بدأت فيه أحزاب المعارضة تستثمر الأزمة السياسية بهذا الاغتيال، ضرب الإرهاب بقوةٍ مرةً أخرى في جبل الشعانبي على الحدود مع الجزائر، ما أودى باستشهاد ثمانية من أبناء الجيش الوطني التونسيّ في كمين خطير، وهو ما جعل المؤسسة الأمنية في حالة استنفار قصوى؛ حيث ضرب الجيش بقوةٍ في مغاور الجبل، وضربت قوات الأمن بقوةٍ أيضاً في المدن والأحياء المشبوهة، ما أسفر عن القبض على العديد من المتورطين في عمليات التفجير والاغتيال السياسي، كما صرح به وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو يوم الأحد الرابع من أغسطس/ آب 2013.

لكن تبقى الحقيقة المرة: إنّ شبحاً ما يمرّ بالبلاد اليوم زاد في تدهور الحالة النفسية لمعظم التونسيين، ألا وهو شبح الإرهاب والتفجيرات والاغتيالات السياسية، وهو ما جعل الابتسامة تفارق الوجوه. نعم، أقولها شبح لأن القضاء عليه في المرحلة الحالية يبدو كما صعوبة السيطرة على الأشباح؛ فبعد أن سوّقت وسائل الإعلام فكرة أنّ الإرهاب مرتبط بأنشطة بعض السلفيين وخصوصاً المتشددين، بدأت أذهان الناس تستفيق على حقائق أخرى وعلى شبكات جديدة لم تتضح صورتها بعد للقاصي والداني؛ هذه الشبكات ذات العلاقات المريبة بالداخل والخارج لا تنفي إمكانية تورط الجهاديين في أعمال الإرهاب، ولكن تفتح الباب على جهات أخرى قد تكون مرتبطة بالدولة العميقة في تونس.

إن الإرهاب أيّاً كان مصدره ونوعه مرفوض في تونس؛ ذلك أن تونس بلد منفتح، كما يعلمه الجميع، بلد التسامح والتجديد في التفكير الديني والقراءة الموضوعية للتاريخ القديم والحديث؛ بلد التعدد الفكري والحوار الحضاري والتعدد السياسي على أيامنا هذه خصوصاً، لذلك لن يرضى لنفسه أن يكون لقمةً سائغةً للإرهاب.

وسيقولها مع جميع شعوب العالم التي تعاني من الإرهاب: «لن تسرقوا منا فرحة العيد»، نعم لن تسرقوا منا الفرحة من جديد، بل سنكون يداً واحدةً ضد الإرهاب الذي يهدّد أمن الشعوب والأبرياء من المواطنين ورجال الأمن والعسكريين. لن تسرقوا منا فرحة التغيير في تونس نحو الأفضل، لن تسرقوا منا في تونس فرحة الشعب بالحياة الجديدة.