أستاذة مشاركة زائرة في الدراسات الإسلامية، ومديرة برنامج الإسلام والغرب بجامعة هارفرد. والمقال ينشر بالاتفاق مع خدمة «كومون غراوند».
نُظر إلى الإسلام أحياناً على أنه تهديد كامن لعملية تبنّي الديمقراطية، وتنزع التبريرات لوجهة النظر هذه لأن تكرر، حتى الغثيان، فكرة أنه لا يوجد في الإسلام فصل بين السياسة والدين.
في الغرب، أبرزت السياسة التي ترتكز على الحقوق الفردية (مقارنة بالصالح العام) والدين المستقل عن الدولة انتصار الرؤية التحررية للذات داخل الساحة العلمانية العامة. لم تظهر حركة مماثلة في العالم المسلم. قد يكون من المغري إذن الأخذ بعين الاعتبار غياب هذا التطور كإثبات على أن العقلية المسلمة تقاوم بطبيعتها العلمانية جملةً وتفصيلاً.
ليس هناك من دولة في العالم المسلم اليوم لا تعتبر الإسلام عنصراً تأسيسياً للوحدة الوطنية. الإسلام في العالم المسلم إما دين للدولة أو متواجد تحت سيطرة الدولة حتى في الدول العلمانية ظاهرياً كتركيا أو العراق تحت حكم صدام حسين. لذا فإن الدولة هي دائماً تقريباً العامل الأولي المسئول عن التفسير المرجعي للتقاليد. نتيجة لذلك فقد الفكر الإسلامي نشاطاً معيناً ليس فقط في أمور الحكم وإنما كذلك فيما يتعلق بقضايا الثقافة والمجتمع. وهكذا، ليس الأمر هو أن ما يسمى بالعقلية المسلمة تملك مقاومة طبيعية للتفكير النقدي، وإنّما أن التحليل والحكم طالما كانا امتيازاً محتكراً من قبل السلطات السياسية.
ومن العوامل الأخرى التي تؤثر على العلاقة بين الإسلام والديمقراطية العلمانية وجهة النظر السائدة حيال العلاقات الدولية، التي تصوّر الإسلام والغرب كقوتين متضادتين. وهذا يشكل عقلية حصارية بين المسلمين ويحول الإسلام إلى أداة للمقاومة السياسية. وهكذا أصبح الطرح الديني عنصراً رئيسياً في اللغة المستخدمة في أوقات الحرب، وهي حقيقة ثبتت من خلال الادعاءات الدينية التي أطلقها صدام حسين، الواضح العلمانية عادة، أثناء حرب الخليج عام 1990.
وقد يبدو الأمر موهماً للتناقض، ولكن المسلمين في الواقع يمتدحون الديمقراطية على أنها أفضل الأنظمة السياسية. فقد أظهرت العديد من الاستطلاعات المتنوعة في السنوات الأخيرة أن المسلمين يرغبون في العيش في مجتمع ديمقراطي، فهم يشجعون الانتخابات الحرة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. في الوقت نفسه يعترف المسلمون بالأهمية التي تمثلها الشريعة في حياتهم. وهنا يحصل سوء التفاهم أحياناً بين المسلمين وغير المسلمين عند مناقشة الديمقراطية. فالشريعة لا تشير هنا إلى القوانين الفعلية وإنما إلى مجموعة من المبادئ والقواعد الأخلاقية التي ترشد المسلمين في خياراتهم الشخصية والاجتماعية.
ويبرز التناقض الوهمي نفسه بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في أنظمة ديمقراطية غربية علمانية. فالهجرة المسلمة إلى أوروبا والولايات المتحدة توفر انفلاتاً من القبضة الفولاذية للدول المسلمة على التقاليد الإسلامية. ويمكن لهذا التحرر أن يأخذ أشكالاً مختلفة ومتنوعة، وأن تنتج عنه نتيجتان تدعوان إلى الاستغراب. الأولى أن معظم المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة وأوروبا يعترفون بالطبيعة الديمقراطية والعلمانية للدول التي يقيمون فيها ويحترمون تلك الطبيعة. وباستثناء بعض المجموعات الهامشية مثل «المهاجرون» في المملكة المتحدة، ليست هناك محاولة حقيقية من قبل المسلمين في الغرب لتغيير الأنظمة السياسية الغربية وإنشاء دول إسلامية مكانها.
والنتيجة الثانية هي أن المسلمين في الغرب يضعون مفاهيم الشريعة ويستخدمونها كقانون أخلاقي شخصي بشكل متزايد. إلا أن هذا لا يعني اختفاء جميع التشنجات والتوترات. فمجالات النزاع المستمر بين تفسيرات الشريعة والمعايير الاجتماعية للديمقراطيات العلمانية تضم العائلة ووضع المرأة في الزواج والطلاق وتعليم الأطفال.
المحكمة المدنية هي الآن أهم منبر يطالب المسلمون من فوقه بالاعتراف بالخصوصية «المسلمة» التي لا تؤخذ بالاعتبار في القانون المدني السائد في الغرب. وتنعكس هذه الحركة ثنائية الولاء للدولة الديمقراطية العلمانية، وفي الوقت نفسه الإصرار على أهمية الدين على المستوى الشخصي، في الاستطلاع الذي أجري مؤخراً من قبل مؤسسة غالوب بين المسلمين في باريس ولندن وبرلين. فغالبية المسلمين الذين جرى استطلاعهم يمتدحون الوطن والدولة التي يعيشون فيها، وفي الوقت نفسه يعلنون أن الدين له أهمية كبرى عندهم. وهم في هذا المعرض يختلفون عن غالبية مواطنيهم غير المسلمين، الذين أجابوا بأن الدين لا يحمل أية أهمية بالنسبة لهم.
هذا الوضع قد يكون مزعجاً بالنسبة للمراقبين الغربيين، إلا أن الأهم من ذلك أنه يعكس توجهاً يتوجب على صانعي القرار والعلماء أخذه بعين الاعتبار. لن يكون في الإمكان تطبيق نموذج غربي للديمقراطية يرتكز على تهميش الدين أو رفضه في المجتمعات المسلمة. المسلمون يريدون أن يكونوا ديمقراطيين بشروطهم الخاصة، وهذا يعني بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في كل من الغرب وفي المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، أنهم يريدون أن تكون المعايير الدينية واضحة في حياتهم الشخصية اليومية.
إضافة إلى ذلك يعني هذا أن أفراد المجتمعات الديمقراطية ذات الغالبية المسلمة يريدون النماذج والمعايير الدينية أن تنظّم الحياة الاجتماعية العامة. ويثير هذا قلقاً مشروعاً حول الاعتراف بالأقليات الدينية الأخرى وحرياتها داخل نظام اجتماعي تسيطر عليه المرجعيات الإسلامية. فمن بعض النواحي قد تعكس الديمقراطية الأميركية (أكثر من الأوروبية) العناصر الرئيسية للديمقراطية الإسلامية: سيادة الشعب، الفصل بين الكنيسة والدولة، والاعتراف الاجتماعي السياسي بأهمية الأديان بالنسبة للأفراد من المواطنين والحياة الاجتماعية العامة.
من الحاسم والحيوي أن يعترف السياسيون والمفكرون الغربيون بعمليات التحديث وإدخال الديمقراطية التي تشتمل على مرجعيات إسلامية، بينما تسعى إلى حماية الأقليات الدينية والثقافية وضمان حرية التعبير. من المستحيل، في غياب هذه الإجراءات الوقائية تصوُّر أية ديمقراطية، إسلامية أكانت أو غير ذلك.
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 3985 - الأحد 04 أغسطس 2013م الموافق 26 رمضان 1434هـ