العدد 3983 - الجمعة 02 أغسطس 2013م الموافق 24 رمضان 1434هـ

«سلالم الذاكرة»: رحلة محمد صالح الدلال في ربوع الوطن

«جاء السيد تشالز بلغريف المستشار البريطاني لحكومة البحرين إلى إدارة الشرطة، وكان معه رئيس عرفاء. واستدعانا السيد بلغريف واحداً بعد الآخر على انفراد. ثم جاء دوري وكان الأخير... سألني عن اسمي ونوعية عملي في الشركة وأجرتي اليومية فأجبته على الأسئلة، إلا أنه قال لي: أجرتك 4.5 روبية وتضرب عن العمل؟! قلت: إنا مثل مئات من العمال الذين أضربوا. قال: ماذا تفكر أن تكون؟ قلت: أنا هنا في بلادي ويمكن أن أتقلد أي منصب ولكن أنت إذا عدت إلى بلادك فإنك لن تحصل حتى على القدر اليسير مما تحصل عليه هنا. فغضب غضباً شديداً وصاح في وجهي بحنق أخرج. وبعد يومين كانت المحاكمة».

في فترة الأربعينات وخلال إضراب عمال النفط كانت هذه إحدى الحكايات التي كان بطلها محمد صالح الدلال والتي رواها في كتابه «سلالم الذاكرة: رحلة في ربوع الوطن» والذي يمثل سيرة عمر تحتوي على الكثير من الحكايات.

من أجل التاريخ والهوية

اختار الدلال عنواناً لسيرته «سلالم الذاكرة: رحلة في ربوع الوطن» وذلك على غرار السير الصورية التي بدأت تتابع هذه الأيام لأكثر من شخصية بارزة في البحرين توثيقاً للجهود المضنية التي بذلتها تلك الشخصيات في صنع ذاتها بشكل عصامي، وللمحافظة على التاريخ والهوية البحرينية الخاصة، وتذكيراً للجيل الحديث بمن سبقه وعارك الحياة وقسوتها واستطاع أن يعبر كل تلك المراحل بحلوها ومرها ويقدم جيلاً من الأبناء الناجحين في رحلة الحياة وصناعة الحاضر الماثل، رغم عدم الاستقرار ورحلة التحول والتبدل.

من آل رقية إلى الدلال

يظل القارئ والمتصفح لهذه السيرة الصورية يصعد سلالم ذاكرة الدلال طبقة بعد طبقة حتى يصل للنهاية وتكتمل لديه الصورة والسيرة كاملة، وذلك في ثلاثين فصلاً توزع على مجموعة من العناوين منها الفصل الأول الذي احتوى على مقدمة عن الأوضاع الاجتماعية في البحرين وخصوصاً المنامة وأهم الصناعات فيها. وفي الفصل الثاني تحدث عن البيئة ليعطي صورة عن السياق الاجتماعي والصحي والثقافي الذي ولد فيه. ثم في الفصل الثالث تحدث عن والده الحاج إبراهيم بن علي آل رقية، وكيف حدثت المفارقة بتحول لقب والده من آل رقية إلى لقب الدلال وهو لقب عائلة خاله والذي كان الوالد إبراهيم يعمل عنده.

ولعل مفارقة تحول اللقب من آل رقية إلى الدلال تفتح الباب لقراءة هذه السيرة كاملة كحالة من التحولات والتبدلات التي عبرت بها شخصية الدلال نفسه من مرحلة إلى أخرى، فتمثلت كسيرة كاملة وناجزة اجتازت تسعين عاماً من العناء ومكابدات التحول والتبدل. وعلى رغم أن الكتاب لم يصنع كتحفة فنية أو أدبية إلا أن فيه من القابلية لأن يقرأ من خلال هذه المفارقة أو ما أسميته بسمة «التحول والتبدل» التي ترفدها همة عالية تختفي وراء هذه السمة على مستوى القراءة الأدبية وحتى النفسية.

من فتيل لمحمد صالح

وسمة التحول والتبدل تبدأ مع المفارقة التي سردها المؤلف في البداية فمن آل رقية إلى الدلال، ثم من اسم فتيل إلى اسم محمد صالح. وفتيل هو الاسم الأول الذي اختاره الوالد إبراهيم لهذا المولود إلا أن الشيخ خلف العصفور والذي كان صديقاً حميماً للوالد فضل تغيير الاسم إلى محمد صالح وكانت هذه هي المفارقة الثانية. وهكذا ستسير حياة الدلال في حالة من التبدل والتحول دائماً وعدم الاستقرار. ثم أعقبتها التنازل عن المأتم الذي ورث إدارته حيث مات أبوه الحاج إبراهيم والابن محمد صالح مازال صغيراً 14 عاماً فاتفق مع أمه وخاله الملا حسن السماهيجي للتنازل عن الولاية على مأتم الحاج خلف بالمنامة. ثم جرى التحوّل الآخر في خسارة الدلال تجارة أبيه وتركها ليبحث عن عمل. وهكذا ظل ما إن يجد عملاً ويتقنه بل ويبرع فيه حتى يبحث عن عمل آخر ينقله إلى حال أفضل بحسب تطلعه وطموحه وهمته العالية وهي صفة لازمته طوال مسيرته الحياتية. بدأ عاملاً في مشروع إنشاء جسر المحرق بيومية مقدارها 50 فلساً ثم نجاراً أجرته روبيتان ثم مراقباً في مضخة النفط بأربع روبيات، ثم مدير محلات الحداد التجارية. وهكذا تتابع معه سمة التحول والتبدل فلا يظل يكتفي بأن يتنقل من عمل لآخر بل يأخذه الطموح وعلو الهمة والحلم بحال أفضل لأن ينتقل من بلد لآخر فيسافر إلى العراق متنقلاً من عمل لآخر ثم إلى الكويت ثم إلى دمشق وفي نهاية المطاف يعود للبحرين. وما اختياره لعنوان «رحلة ربوع الوطن» سوى لأنه لا يرى الوطن بمعناه الضيق فهو من جيل حلم بوطن عربي ممتد بامتداد اللغة العربية على هذه الرقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج الحالمة بالتحرر من الاستعمار في حينه ولذلك جازف بالانتقال من مكان إلى آخر من غير أن تحده حدود مصطنعة أو حواجز مفتعلة.

في ضيافة عائلتي الدلال والجشي

عند قراءتك لهذه السيرة تجد نفسك في ضيافة عائلة الدلال وعائلة الجشي وتنتقل معهم من مكان لآخر مرة بحسب السعي نحو طلب الرزق ولقمة العيش ومرة بحسب أهواء السياسة. فمرة تجد نفسك في البحرين في العشرينات بين بيوت الطين والجص وما يسمى (بالكَبَر) في البلاد القديم حيث تعرض منزل الدلال للسرقة فلحقهم الحاج إبراهيم بالبندقية لكنه لم يدركهم، فقرر الانتقال بالعائلة لبيت الزوجة الثانية خديجة في المنامة لتجد نفسك في السوق وأجواء الباعة والشواء والتجار، أو تجد نفسك في رفقة المؤسسين لنادي العروبة من مثل العريض وغيره. أو مع الدلال الشاب الصغير وهو يناقش القس زويمر بكل جرأة، أو في مواجهة المستشار بلغريف، أو في عراق الخمسينات في مشاهدها أو في سوقها أو بين عمالها، أو في ضيافة الجيران عائلة عالم الاجتماع علي الوردي، أو في الكويت مع المنفي في حينها حسن الجشي، أو دمشق مع الشملان أو العليوات ومناقشات ما بعد المنفى وأيام النضال الوطني والسعي للتحرر.

الالتحاق بالمدرسة الجعفرية

منذ اللحظة الأولى التي وعى فيها الدلال على الحياة كان «يحترق شوقاً» ويتطلع للعلم ولذلك ليس غريباً أن يحرص على تعليم الأبناء وإيصالهم للدراسات العليا فرغم «الصفعة» التي تلقاها من أبيه من حين أسرّ له بالرغبة في الالتحاق بالمدرسة الجعفرية إلا أنه لم يفارق حلمه إذ اقتنص فترة مرض والده ووفاته ليلتحق بمبادرة منه بالمدرسة الجعفرية ثم بمدرسة العريض التي يديرها التاجر ويبدأ فيها تعلم اللغة الإنجليزية ليلاً. ولعل إتقانه منذ البداية لشيء من الإنجليزية وحرصه على ذلك هو ما جعله يرتقي شيئاً فشيئاً من مهنة لأخرى، ويكون مع الرعيل الأول في اطلاعهم وحسهم الوطني والتحرري.

مجدداً تجد نفسك في البحرين في رفقة الثمرة التي عكف عليها الدلال وهي عائلته الصغيرة رغم تنقلاته وقد أثمرت فشوقي أصبح اسماً يعتد به في تخصصه وقد أصدر موسوعة مهمة في علم الفلك، وفوزية رحمها الله تحكي قصة نجاح وكذلك سامي وابتسام، وكذلك هم الأحفاد؛ حيث لا ينسى الجد التسعيني أن يرصع نهاية السيرة بصورهم لتجد نفسك أمام حكايات أخرى قادمة وليربط المؤلف أبناءه وأحفاده بخيوط سيرته التي أنجزها بهم ومعهم ولهم.

العدد 3983 - الجمعة 02 أغسطس 2013م الموافق 24 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:22 م

      شكر

      سرد شيق وجميل استاد حبيب حيدر

    • زائر 1 | 11:26 ص

      رجل الوفاء الذي حظيت بالتعرف عليه

      العم أبا شوقي من احب الناس الي قلبي لدماثة خلقه وابتسامته العريضة والقلب الحنون إذ تشرفت بمعرفته عند ابنته وصديقتي الغالية د. ابتسام. لقد أحسن وزوجته الحبيبة تربية أبناءهم اللذين تشرفت وزوجي بالتعرف عليهم والعمل معهم. ندعو للعم أبو شوقي والغالية الخالة أم شوقي بطول العمر.

اقرأ ايضاً