تتعمق في منطقتنا العربية بصورة متزايدة إشكاليات القبول بالتعددية وإدارة التنوع بسبب غياب مشاريع بناء الهويات الوطنية من قِبل الأنظمة السياسية، مما يفرز بطبيعة الحال أشكالاً متنوعة من التوجهات التي تعزز الانكفاء على الذات والابتعاد عن الأطر الوطنية الشاملة.
النظام السياسي والاجتماعي العربي لا يتسق مع مفهوم الدولة الحديثة في قدرته على استيعاب مختلف المكونات الاجتماعية، فهو ببنيته التقليدية يصنف المواطنين إما موالين له أو معارضين، ويحدّد هذا التصنيف أيضاً ضمن مقاييس غاية في البعد عن الموضوعية أو العلاقة المقننة.
أعادت هذه السياسات اللاوطنية تشكّل الفئات الاجتماعية بصورة جعلتها تتقوقع على ذواتها، متصوّرةً أن همومها وتطلعاتها تقع ضمن الاهتمام بدوائرها المغلقة، في ظل اعتقادها بانعدام المصالح المشتركة التي تجمعها مع بقية الفئات الشريكة في الوطن.
لعل في حديثي هنا نقداً ذاتياً للحال التي وصلنا إليها، من ناحية البنى الفكرية والتوجهات السياسية التي سادت في عديد من مجتمعاتنا العربية، بصورةٍ جعلت من انتمائها للمنطقة أو القبيلة أو المذهب أكثر وضوحاً وبروزاً من تغليب مشروع الهوية الوطنية.
وبغض النظر عن مبررات هذه الحالة ومشروعيتها، إلا أنها تفرز في معظم الأحيان سلوكياتٍ وممارساتٍ يغلب عليها إبراز الذات –كأفراد وجماعة- كنموذج للقوة والتميز والنجاح والإنجاز، مقابل الفئات الأخرى.
كما تولد حالة الانغلاق أيضاً الشعور بالأقلاوية لدى أبناء هذه الفئات الاجتماعية وما ينتج عنها من تعليق كل مسببات الأزمات المحلية على مشجب التمييز ضدها، وتضخيم جميع القضايا المتعلقة بها.
المشكلة تكمن –وهذا هو مقصد الحديث– في أن هذا التوجّه مع مرور الزمن، يشكّل عائقاً ذاتياً أمام حلول الاندماج الوطني، ذاك أنه يوصد الباب أمام أية مبادرةٍ للمعالجة، مما يعزز القناعات بعدم إمكانية الحل والمعالجة في الإطار الوطني.
أكرر أنه لا شك أن الأنظمة وطريقة إدارتها قد أوجدت هذه الأرضية البائسة أمام الحلول الوطنية السليمة، ولكن الانجرار أيضاً وراء حالات الانكفاء والانغلاق والتقوقع، يقود إلى مزيدٍ من التشظّي ويعمّق الشرخ داخل الوطن الواحد.
ففي الوقت الذي تتجه فيه معظم المجتمعات المتحضّرة إلى مزيدٍ من مشاريع الوحدة والاندماج، تظلّ منطقتنا العربية عرضةً لحالاتٍ أوسع من التنافر والتفتت والانقسام، وهي حالةٌ نعرف جميعاً فشلها في عديدٍ من التجارب الحديثة في المنطقة العربية.
ومع أن القفز على الهموم المحلية عادةً ما يكون أمراً صعباً، إلا أن المسئولية الوطنية تقتضي العمل المشترك لمواجهة حالات التقوقع حول الذات والتأكيد على الهوية الوطنية الجامعة عبر إعادة صياغة السياسات، وتنمية أواصر العلاقة والتواصل بين مختلف الجماعات لبلورة مشاريع عمل وطنية مشتركة ومتماسكة من جهة أخرى.
ولعل من أهم عوامل نجاح مثل هذه الأطروحات هو مشاركة مختلف القوى والشخصيات في تبني القضايا المشتركة والدفاع عن جميع الفئات الاجتماعية، من أجل بناء وطنٍ ينفتح فيه الجميع على بعضهم ويشعرون جميعاً بشراكتهم فيه.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 3980 - الثلثاء 30 يوليو 2013م الموافق 21 رمضان 1434هـ