على وقع الخبر/ الصدمة، أنهى المجلس التأسيسي التونسي يوم الخميس 25 يوليو/تموز 2013 احتفاله الرسميّ بعيد الجمهورية. نعم، على وقع نبإ فاجعة اغتيال النائب بالمجلس التأسيسي محمد البراهمي استيقظ التونسيون من حلمهم الجميل؛ حلم التوافق بين الفرقاء السياسيين وإنهاء كتابة الدستور الجديد والمصادقة عليه وقرب الانتهاء من انتخاب أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي سوف تشرف على الانتخابات الرئاسيّة والتشريعية المقبلة. نعم، على وقع زلزال عظيم استفاق الشعب التونسي مغموراً بحالة من الإحباط في النفوس... ليبقى السؤال طريح الورق وحديث الألسن: لمصلحة من يحدث هذا الاغتيال السياسيّ الثاني في تونس ما بعد الثورة؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
تقرّ العلوم السياسية أنه من الصعب معرفة مرتكب الجريمة السياسية ولكن توجّه هذه العلوم أيضاً إلى قاعدة مفادها أنّ الشكوك تحوم عادةً حول الجهة المستفيدة من الاغتيال. وفي واقعة الحال اختلف المحللون حول المستفيد من هذا الاغتيال؛ فلئن تسرّع البعض باتهام حركة النهضة في الضلوع المباشر في الاغتيال، فإن الكثير من المتعمقين في قراءة المشهد السياسي التونسي استبعدوا ذلك، ليتهموا جهةً أخرى أخطبوطية التكوين، غير أن الأدلة تعوزهم لتسميتها واكتفوا بنعتها بكونها جهة ليس من مصلحتها بناء دولة ديمقراطية، ولم ينف الكثيرون علاقة هذه الجهة بأطراف دولية غربية أو شرقية، عربية أو أجنبية.
نعم، بحزنٍ عميقٍ ارتسمت في تونس يوم الخميس الماضي صفحة قاتمة باغتيال الشهيد محمد البراهمي، وهو من مواليد سنة 1955 من محافظة سيدي بوزيد، ذات الأهمية الرمزية. عمل في مجال المحاسبة ما بين التدريس والمؤسسات الحكومية العقارية، كما شغل خطة مدقّق حسابات بالمملكة العربية السعودية في إطار التعاون الفني بين البلدين ليعود سنة 2004 إلى عمله في تونس بالوكالة العقارية للسكنى.
أما بالنسبة إلى نشاطه السياسيّ، فقد انضمّ محمد البراهمي إلى ما كان يعرف في الجامعة التونسية باسم «الطلاب العرب التقدميون الوحدويون»، ثمّ أسس سنة 2005 رفقة زملائه حركة الوحدويين الناصريين، وكانت الحركة ممنوعةً تعمل سرياً، وكان الفقيد قد اعتقل مرتين في سنة 1981 و1986 وتمّت تبرئته في المناسبتين من قبل المحكمة، كما لقي العديد من المضايقات السياسية في عهد المخلوع إلى أن جاءت الثورة وأسّس حركة الشعب، التي وصل عبرها إلى المجلس التأسيسي لكنه استقال منها منذ أيام قليلة ليؤسس التيار الشعبيّ. وهكذا يبدو الفقيد ذا مكانة واعتبار داخل المشهد السياسيّ في تونس، ولذلك فإن اختياره في هذا التوقيت بالذات من المسار الانتقالي التونسي نحو الديمقراطية يؤكد أنّ من يقف وراء هذا الاغتيال جهة منظمة رسمت خطة تتبعها بدقة، ولها من القوة ما يجعلها قادرةً على فعل أي شيء وفي أيّ وقت وبسرعة ونفاذ شديدين.
ولعلّ أبرز عنوان لأجندة هذه الجهة هي إرباك المشهد العام وقطع الطريق أمام إنهاء المسار الانتقالي والوصول من جديد إلى صناديق الاقتراع؛ وهذا ما ذهب إليه طيفٌ واسعٌ من المحللين السياسيين من تونس وخارجها، حيث كلما سارت البلاد نسبياً نحو الهدوء والاستقرار إلا وشهدت حدثاً كارثياً يعيدها إلى نقطة البداية ومربع الفوضى والاحتقان.
واختيار هذه الجهة، المنظمة تنظيماً محكماً، لرموز من قادة الجبهة الشعبية واليسار الراديكالي ما هو إلا وسيلة دنيئة لتوريط خصومهم في السلطة وخصوصاً حركة النهضة، التي لا يخلو خطابها بين الحين والآخر من لهجة تهديدٍ في غير محلها، يستغلها خصومها في المعارضة الراديكالية لمزيد إثبات التهمة عليها وجرّ البلاد إلى الفوضى؛ ذلك أنّ من يقف وراء الاغتيالات السياسية في تونس يدرك أنّ الفوضى لا تتحقق إلا بإدخال النقيضين في صراع مرير.
وقد تبيّن في الأشهر الأخيرة أنّ الجبهة الشعبية الممثلة لليسار الراديكالي المعارض، والتي دخل معها الشهيد محمد البراهمي في تحالف، هي التي لا تزال تكيل النقد اللاذع لحكومة الترويكا، وخصوصاً لحركة النهضة، كما أن جريمة اغتيال المعارض شكري بلعيد لم يقع فكّ ألغازها إلى اليوم. ومن ثمّة فإن الفرصة سانحةٌ لإدخال البلاد من جديدٍ في الارتباك والصراع السياسيّ خصوصاً وأن استنساخ حملة تمرد من النموذج المصري إلى الديار التونسية باءت بالفشل لأسباب كنا قد شرحناها في مقال سابق. وبذلك لم يعد هناك من وسيلةٍ أمام هذه الجهة إلا جريمة الاغتيال السياسيّ وفي يوم عيد الجمهورية حتى لا ينعم التونسيون بحلاوة هذا الاحتفال وهم في الهزيع الأخير من المسار الانتقاليّ.
إن برنامج هذه الجهة الخطيرة هو تأجيج الصراع بين الإسلاميين واليساريين، واغتيال محمد البراهمي جاء فقط لأنه ينتمي للجبهة، وهو الحلقة الضعيفة فيها، بل هو آخر شخص يمكن أن تحوم حوله الشكوك في إمكانية اغتياله ما يجعل الحماية الأمنية الشخصية منعدمةً في حالته على عكس غيره.
إن هذه الجهة التي تلوّثت يدها للمرة الثانية باغتيال رموز العمل السياسي في تونس، لا يعنيها الدستور المنتظر ولا التوافقات التي تحصل، ولا تحسّن الوضع الاقتصادي النسبي المتحقق في النصف الأول من العام 2013، ولا الموسم السياحي المبشّر بكل خير على الاقتصاد التونسي... إن ما يعنيها هو الهدم عبر المشاحنات والصدامات، لعلّ الشعب يقول يوماً: «لقد أخطأنا حين أسقطنا حكم المخلوع».
إنّ هذه الجهة لا تريد للتجربة التونسية أن تنجح، لا تريد للدستور أن يرى النور، ولا للانتخابات أن تتمّ، ولا للمواطن البسيط أن ينعم بالأمان. هذه الجهة تراقب عن قرب وعن بعد المشهد السياسيّ وتخطّط في الداخل والخارج، وتنفذ بأيادٍ محترفةٍ ومأجورة.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3979 - الإثنين 29 يوليو 2013م الموافق 20 رمضان 1434هـ
من يا ترى؟
نّ هذه الجهة لا تريد للتجربة التونسية أن تنجح، لا تريد للدستور أن يرى النور، ولا للانتخابات أن تتمّ، ولا للمواطن البسيط أن ينعم بالأمان. هذه الجهة تراقب عن قرب وعن بعد المشهد السياسيّ وتخطّط في الداخل والخارج، وتنفذ بأيادٍ محترفةٍ ومأجورة.
حرام
حرام التجربة التونسية تروح حرام
شكرا
بارك الله فيكم مقال تحليلي جيد
السذج
السذج و الجهلة هم الوحيدون اللذين يتصورون إن إزالة معارض سوف ينهى مشاكلهم و يسهل طريقهم. لا يدركون بأنهم يغرسون العداء لأنفسهم.