صار الإنسان/ الدول يقترض/ تقترض الزمن؛ وخصوصاً حين يكون/ تكون خارجه. خارجه بخلوّه من الروح. روح الزمن فيما ينفع الإنسان، وفيما يعمّق ويُكرّس قيمته ومعناه وأهدافه النبيلة. لا يقترض أحدنا إلا من عجز. العجز يدفعك دفعاً إلى اقتراض ما يقوّيك ويجعل حياتك أكثر سهولة بعد عُسْر؛ ولكل اقتراض ثمن وضرائب، وفي الغالب ضرائب منهكة. اقتراض الزمن في حالات العدم والضياع والتيه واللاجدوى؛ أكثر إنهاكاً.
***
واحد من مآزق الإنسان اليوم أنه خارج الزمن؛ زمنه الخاص، والزمن العام. زمن البشر والمحيط الذي وجد فيه. زمنه الخاص يذوي ويضمحلّ؛ إما في تخلّف وتأخر لا يراه كذلك، وأحياناً على انسجام معه؛ وإما في غياب وانفصال عن حقيقته. أن يكون تافهاً ويظن أنه واحد من طابور طويل من العبقريات، وأن يكون مستسلماً صاغراً مشلولاً؛ وفي وهمه وتخيّلاته أنه أحد صنّاع فتوحات العالم؛ على اختلاف وتعدّد تلك الفتوحات؛ وأن يكون متجاوزاً للأبالسة والشياطين ويصرّ على أنه أحد حرّاس الفضيلة ومنقذي العالم.
كل ذلك لا يمكن أن يكون وليد زمن حق، زمن حر لفرد حر يعي دوره وإمكاناته، ويمارسها في صالح محيطه الخاص امتداداً إلى المحيط العام.
***
الزمن العربي جارح. الزمن العربي المشهود، لا يختلف كثيراً عن الزمن في القبور. كأننا عربياً في قبور على السطح بدل أن نكون تحته. لا فرق، فالقبور قبور؛ سواء فوق الأرض أو تحتها؛ طالما أن الإنسان لا أثر يدل على حياته، ولا أثر يدل على أنه هنا؛ أو كان هنا أساساً.
أن تكون هنا بحجم الفعل الذي تحدثه، والأثر الذي تتركه، والإضافة التي تُبرزها إلى العالم، ويكون العالم ممتنّاً، وتدفعه تلك الإضافة إلى تذكّر ذلك الصنع والفعل والأثر، وتعميمه في الممارسة العامة لتلك الحياة. كأن العربيَّ بتعامله مع الزمن الحالي وباقتراضه لذلك الزمن؛ إن وجده، يتجوّل في قبره. يتجوّل في الأوطان/ القبور. لم تترك هذه الأوطان؛ أو جلّها زمناً لذلك الإنسان؛ لأنه ببساطة خارج المعادلة، وخارج التخطيط؛ إلا من التآمر عليه، وخارج التنمية، وخارج النهضة التي يصدح بها الإعلام ليل نهار، ولا تبصر من بعد كل ذلك إلا أطلال أوطان وأطلال إنسان، وأطلال وجود وأطلال حضور!
***
لم ينتهِ زمن الأطلال العربية؛ بكل ما تحمله من عاطفة دفّاقة، وروح ترتجّ بالحنين ويفيض عنها، في وقوف حصري بين آداب العالم، في شرقه وغربه، جنوبه وشماله؛ لكن هذه المرة زمن أطلال من نوع آخر؛ على رغم التسابق المحموم لاختراع المدن حتى تحت الماء؛ إلا أن المُبعد والمنبوذ من كل ذلك التسابق، عنوانه ومضمونه الكبير: الإنسان. إنسان الأرض، لا الإنسان العابر أو حتى المقيم لزمن ليعود أدراجه من حيث أتى.
الفارق الوحيد أن الوقوف على زمن الأطلال العربية المعاصرة انتزعته الرواية من الشعر. الرواية العربية اليوم أكثر قدرة على رثاء تلك الأطلال وزمنها وإنسانها الذي مايزال شائعة إنسان، ويحمل شائعة حياة؛ فيما الحقيقة خلاف ذلك.
***
في الخوف لا يشعر الإنسان بإيقاع الزمن. يظل محتبساً بالنسبة إليه. محتقناً كاحتقان الدم في عروقه. في انعدام الطمأنينة، ينعدم الزمن، كما هو باعتباره عنصر حياة ردْفاً للمكان الذي اختاره. في الرعب يذهب الإنسان في مجهوله. لا التفات للزمن. حين تكون مشغولاً بالبحث عن النجاة طوال الوقت، يكون زمنك قد فرّ منك؛ أو تمّ اختطافه ومصادرته.
في السياسات الراهنة اليوم ما يصنع ذلك الاختطاف والمصادرة للزمن؛ بمعنى آخر اختطاف ومصادرة الإنسان وتغييبه وإرساله إلى المجهول. وفي المجهول لا معلوم للزمن. كأنه بذلك لا حضور للإنسان. لا يلتقي نفي وتأكيد للموضوع الواحد، والأمر الواحد. تأكيد المجهول والمعلوم معاً وفي الوقت نفسه، أو نفي المجهول والمعلوم معاً وفي الوقت نفسه. في نهاية المطاف: زمن الإنسان مجهول؛ لأن الإنسان لا حظ له من المعلوم في ظل تلك السياسات، ومنْهَجَة الرعب، وتقويض الطمأنينة.
أهلاً بكم في مرحلة اقتراض الزمن. أهلاً بكم في القبور التي على السطح بعد أن كانت تحته!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3978 - الأحد 28 يوليو 2013م الموافق 19 رمضان 1434هـ