اهتمت نظريات الدورة التاريخية بالحروب، وركزت أدبياتها على حروب الخمسمئة عام التي شهدتها أوروبا، وكانت تلك الحروب هي المقدمة لبروز عصر القوميات. وخلاصة هذه النظريات أن هناك قوانين طبيعية لاندلاع الحروب، بغض النظر عن أسبابها، وأن هذه القوانين تشير إلى أن الحروب الكبرى تشتعل في تتابعات ومتواليات زمنية، فترات انقطاعها موضوع خلاف بين المنظرين. لم تهتم نظريات الدورة التاريخية كثيراً، بالأسباب الاجتماعية المؤدية إلى الحروب، باستثناء كتابات أمانويل ويلريشتاين الذي ركز على العوامل الاقتصادية، بما في ذلك نقص الموارد والتنافس على الثروات، كأسباب مرجحة لاشتعال الحروب.
كان أرسطو أول من قال بالتشابه بين دورات نمو الكائن الحي، والتطور الإنساني. لكن العلامة ابن خلدون هو أول من صاغ نظرية متكاملة لقانون الدورة، فتحدث عن مراحل نمو الإمبراطوريات، وأسباب سقوطها، فقال إنها تمر بدورات ثلاث: العصبية والعمران فالشيخوخة. لكن هذه الدورات لا تأخذ مكانها بشكل ميكانيكي، لأن ذلك يفقدها طبيعتها الإنسانية.
لقد نقلت نظرية ابن خلدون التاريخ، من موضوع متصل بعلم الأخلاق، إلى علم مستقل بذاته، ولم تعد قراءته لمجرد استلهام العبر، ولكن أيضاً كأداة تساعد على فهم قوانين التطور. أصبح لدينا فهم يتجدد باستمرار لوظيفته. وانتهت مقولة أن لا جديد تحت الشمس، بحسبان أن التسليم بها، هو نكران لمعنى التجدد الذي هو غاية الحياة، ومبرر تقدم البشرية.
التاريخ على هذا الأساس، ليس استنساخاً للحركة، رغم وجود ما يقترب من التماثل في أشكال تمظهراتها، والتسليم بذلك لا ينفي على أية حال القانون الأساس الذي هو المعنى الآخر للتاريخ، المعنى الحاضن للوحدة والتنافر. فلو لم تكن هناك حركة، لما كان هناك شيء يستحق التدوين.
تقودنا هذه المقدمة، إلى ما يجرى الآن على الساحة المصرية، من أحداث عاصفة، واختلافات تكاد تودي بوحدة المجتمع المصري، وتهدد وجود أقدم دولة عرفها الإنسان.
في حديثنا الماضي، في مواجهة المستحيل، طغت نبرة التفاؤل بمستقبل مصر. فبالنسبة إلينا، يشكل انتهاء حكم الاستبداد، وأفول شمس أخونة مصر، مكسباً وطنياً وقومياً، لا يمكننا إلا أن نحتفي به، ونرى فيه طياً لصفحة ماض بغيض، عطّل دور مصر، وعزلها عن معظم شقيقاتها العربيات. لكن أزمة مصر، لا يمكن اختزالها، في هيمنة الإخوان، ووجود تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية. فما تعانيه مصر من أثقال، تنوء بحملها الجبال، بحاجة إلى جهد استثنائي، وعمل خلاق، لا تكفي فيه النوايا الحسنة.
أزمة مصر، هي نتاج عقود من سياسات اقتصادية خاطئة، لا تكفي الحلول التدرّجيّة للخروج منها. إنها بحاجةٍ إلى معالجات جذرية، تمنح الدولة، في هذا المنعطف من التاريخ، دوراً أكبر في صياغة البرامج والمناهج، والخطط التنموية لتوضع مصر مجدداً على السكة الصحيحة. وما لم يتم خلق حلول واقعية ومبدعة للأزمات المتراكمة التي تمر بها مصر، فستكون الحال أسوأ بكثير، مما تمر به الآن. وستشهد مصر انتفاضات موسمية، تطيح في رأس الدولة وتنصّب آخر، في متتاليات ليس لها نهاية.
سيكون حال القيادات المصرية، أشبه بحال ولاة البصرة، أثناء المرحلة الأخيرة من هيمنة السلطنة العثمانية.
كان سلاطين آل عثمان، لا يعيرون أي انتباه لمصالح الدول والشعوب التي وقعت تحت حكمهم، وجلّ همهم هو جباية الأموال منهم. وكانت المهمة الأساسية لولاة السلطنة في تلك البلدان، هي جباية الأموال من السكان وإرسالها إلى المركز في الأستانة، دونما وضع أي اعتبار لمعاناة الناس واحتياجاتهم، وكان السلاطين باستمرار يلحون في طلب المزيد.
في البصرة، حدثت مجاعات لسنوات متتالية، جعلت العراقيين يشكون للوالي العثماني، من عدم قدرتهم على تسديد ما يطلبه الجباة. لكن ذلك لم يغير من الواقع شيئاً. تسود حالات الغضب ضد الوالي، فيصدر فرمان السلطان بعزله فيحتفل الناس بالخلاص من الوالي الظالم، وينقسمون إلى فريقين، فريق يتولى ضرب الوالي المعزول باللكمات والسياط، وفريق آخر، يحتفي بالوالي الجديد، ويحمله على الأكتاف. ولا تمر سوى فترة قصيرة، حتى يتكرر المشهد، والٍ معزول ينال سياط المحتجين، ووالٍ آخر يرفع على الأكتاف. وتبقى معاناة الناس وهمومهم على ما هي عليه، من غير حل.
حضرت هذه القصة الطريفة في خاطري، والمشهد في ساحة التحرير، بقلب القاهرة، يعود إلى ما كان عليه قبل عامين. والحديث يعلو عن الديمقراطية والحداثة وكأنهما وصفتان سحريتان لحل جميع مشكلات مصر. والأمر ليس كذلك، فكرامة الإنسان، ترتبط ابتداء بتلبية حاجاته الأساسية، من سكن وصحة وتعليم وكهرباء وحق في العمل. وهذه الحقوق ليست رفاهية، يمكن الاستغناء عنها، أو تأجيلها لمصلحة التحولات السياسية والديمقراطية، بما في ذلك نزاهة الانتخابات وتعديل الدستور وما يطلق عليه مجازاً بالحكم الرشيد.
ذلك لا يعني، تنكراً للدولة المدنية، ولا لحق الناس بالمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بمستقبلهم، فتلك أمور أصبحت من بديهيات هذا العصر، ولكن أمر الحريات لا يستقيم مطلقاً، مع غياب العدل الاجتماعي، وهيمنة الفقر والأمية، وانتشار العشوائيات، وارتفاع مستوى الجريمة، ووقف التنمية الصناعية والزراعية، وفتح الأبواب مشرعة للسلب والنهب.
لا يتحقق مستقبل مصر، حين تظل رهينة لصندوق النقد الدولي، وتبقى سيادتها ناقصة، على كامل أراضيها. مستقبل مصر، لا يتحقق بثورات برتقالية وبنفسجية، تلون فضاءاتها، من دون بعثها الدفء والبهجة في نفوس الجياع والمعدمين المتلفحين تحت الكباري بالأسمال.
والحل لا يكمن فقط في قيام الدولة المدنية التي ترفع شعاري الديمقراطية والحداثة، ولكن أيضاً في دولة العدل الاجتماعي، والمساواة في الحقوق، وسيادة القانون، وتوفير السكن والتأمين الصحي، وخروج الملايين من فقراء مصر من خط الفقر. وما لم يتحقق ذلك، فسيكون لقوانين الدورة التاريخية حضورها، ولكن على الصعيد الاجتماعي. سوف يعيد التاريخ تمظهراته السابقة، التي شهدتها مصر خلال العامين السابقين، في أشكال وصيغ، ربما تكون أسوأ بكثير مما شهدناه في 25 يناير و30 يونيو.
مصر العربية بحاجة إلى أن تنهض من تحت الركام، وتعيد بناء مجدها، كما قال رفاعة الطهطاوي، «من خلال الخبز والفكر والمصنع والحرية»، لتواصل مجدداً قدرها التاريخي في بناء نهضة الأمة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3975 - الخميس 25 يوليو 2013م الموافق 16 رمضان 1434هـ