التاريخ: الثاني والعشرون من يوليو/ تموز عام 1987. الوقت: الساعة الخامسة والربع مساءً. المكان: شارع آيفز – تشيلسي كنسنجتون في العاصمة البريطانية لندن. الوصف: تَعَقَّبَ رجلٌ رجلاً آخر. وبعد متابعة خلفية حثيثة، وانعطافة سريعة، أخرج مُسَدَّساً كان يُخبئه في صحيفة ورقية، وأطلق عليه رصاصة واحدة فأرداهُ أرضاً، ثم فَرَّ هارباً، مستخدماً باب محلٍّ مجاور للمكان.
بعد دقائق، ظَهَرَ أن المتَعَقَّب (المغدور به) والمُضرَّج بِدَمِه، كان رسَّام الكاريكاتير الفلسطيني المبدِع، ناجي العلي. أما المتَعَقِّب (الغادر) فقد كان رجلاً يعمل لحساب المخابرات الإسرائيلية الخارجية (الموساد). هذا ما بيَّنته لاحقاً خطوط الجريمة، والتحقيقات التي أجراها الأمن البريطاني. إسماعيل صوَّان، ثم طُرِحَ اسمان آخران متشابكان: عبد الرحيم مصطفى وبشَّار سَمَارة.
سُجِّي ناجي على سرير المستشفى وهو في حالة حرِجة. فقد مزقت الرصاصة التي أطلِقَت عليه، البصَلة السِّيسَائيَّة (النخاع المستطيل) في أدنى جزء عند دماغ الفقاريات، الممتد حتى النخاع الشوكي، الذي يضم مراكز التحكم في القلب والتنفس والحركة. وفي التاسع والعشرين من أغسطس/آب من العام 1987، فارق ناجي سليم حسين العلي الحياة، عن عمر ناهزَ الـ 51 عاماً.
لم يحمل ناجي العلي بندقيةً لقتال «إسرائيل»، لكنه حَمَلَ ريشةً في وجهها. نعم، اعتقِلَ ست مرات في لبنان، لانتمائه لحركة القوميين العرب، لكنه تعمَّد الريشة على أيِّ شيء آخر. وقد قُتِلَ بسببها، أسرع مما قُتِلَ كثيرون من حَمَلَة السلاح. فالرصاصة، قد تقتل خصماً أو تجرحه أو تُخطئه. أما الرِّيشة والرسم، فإنها تصيب مئات الآلاف من الخصوم يومياً ولا تخطئ أحداً تراه.
ناجي العلي، المولود في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، بين الناصرة وطبرية في فلسطين، والذي هُجِّرَ بعد النكبة إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، وسَكَنَ هو وعائلته في الخيمة رقم 13 (أو 14 كما قال شقيقه) عندما كان عمره عشرة أعوام، لم يكن صبياً عادياً، فقد كان مكنوزاً بـ «ردَّة تمرُّديَّة» كما قال صديق له، رغم صِغَر سنه، وهو ما نَشَّأ لديه موهبة قوية، لا تقبل الإلغاء والمحو.
لم يُوفِّر ناجي أحداً في رسوماته. ريشته آلَمَت الجميع لقوة وخزها. الفصائل الفلسطينية. الأحزاب اللبنانية. الدول العربية بأسرِها، فضلاً عن «إسرائيل»، التي كانت خصمه الأساس.
رَسَمَ أول لوحة كاريكاتيرية في العدد الثامن والثمانين من مجلة «الحرية»، في 25 سبتمبر/أيلول 1961. وكان مُزَكِّيهُ في ذلك، هو الشهيد غسان كَنَفاني، الذي اغتاله الموساد في بيروت مطلع يوليو/تموز العام 1972.
كانت رسومات ناجي العلي غايةً في الإبداع. لم تكن رسماً فقط، بل كانت رأياً ناقداً، وتوصيفاً دقيقاً لأحوال العرب والفلسطينيين. وكان يُرَمِّزها بشخص مربوع القامة، لا يُعطِي القارئ إلاِّ قَفَاه، أطلقَ عليه اسم: حنظلة. وقد قال عنه ناجي في لقاء تلفزيوني، بأنه «تعبير ذاتي عن نفسي. وقد تعمَّدتُ أن لا أجَمِّله، لأن في أعماقه وحشوته الداخلية، إنسان حميم ودافئ». (جاء في لسان العرب: الحَنْظَل: الشجر المُرُّ، وحَنْظَلة قبيلة. قال الجوهري: حَنْظَلة أَكْرَمُ قبيلة في تميم، يقال لهم حَنْظَلة الأَكرمون وأَبوهم حَنْظَلة بن مالك بن عمرو ابن تميم).
في بداية الشهر الذي أطلِقَ الرصاص عليه، رَسَمَ ناجي العلي كاريكاتيراً يظهر فيه رجلٌ وهو يُلصق على الجدار يافطةً ورقيةً، عليها صورةُ حنظلة، ومكتوبٌ تحتها «مطلوبٌ حياً أو ميتاً». في الوقت الذي يظهر فيه حنظلة وهو يتَرَنَّم بالنشيد الوطني: «بلادي بلادي بلادي... لكِ حُبِّي وفؤادي». وفي أسفل الكاريكاتير، يوجد واحدٌ وعشرون حنظلة، في تعبير عن إصراره على خطه.
وقبل محاولة اغتياله بأسبوعين رَسَمَ ناجي كاريكاتيراً أظهرَ فيه رجلاً نحيفاً، مُكَرَّرٌ في ثلاث هيئات، وهو ذو شارب مُدَبَّب، وعينان صغيرتان، وأنف كمثراوي منفوش، ورأس أصلع، وهو يُضَمِّخ ملابسه بأحبارٍ ورسومات وشارات متسقة، تبدو وكأنها خارطة فلسطين، لمن يراها عن بُعد، ثم يقف ذلك الرجل بعد الانتهاء من تضميخِ ملابسه وهو يقول «مرحباً بالموت في سبيل فلسطين»!
وفي يوم اغتياله، الثاني والعشرين من يوليو (الذي يُصادف اليوم)، رَسَمَ ناجي أربعة رجال وهم جلوس (أو يكادون) أحدهم يُمسِكُ بصحيفة مكتوب عليها: ذكرى معركة حطين، وثلاثة رجال آخرين، يَمَّمَ كل واحد منهم بوجهه في جهة ما، وهم في حيرة وبؤس. أما الرابع، فقد مُهِرَت على قميصه من ناحية الأمام كلمة: جهاد، وهو يصيح: أينَ أنتَ يا سِلاح الدِّين (دققوا ليس صلاح).
كان يعلَم أنه سيموت. لذا، فقد كان مُكثِراً من رسوماته في أيامه الأخيرة. وعندما اغتيل، كان لديه أربعون ألف كاريكاتير، لكن لم يُنشَر منها إلاَّ ثمانية آلاف. وقبلها، كان يرسم في ليلة واحدة خمس رسومات، عندما كان يعمل في صحيفة «السفير»، حسب إفادة طلال سلمان. نعم، كان يُدرك أنه سيُقتَل. وقد أنبأه مستشارٌ لأبي عمَّار من أن حياته في خطر، بناءً على معلومات وَصَلَت إليهم، وأن عليه الرحيل عن لندن فوراً.
لم يكترث كثيراً، بل قال، إنني إن فكَّرت في الرحيل، فلن أرحل إلاَّ لمخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بكل ما فيه من بؤس حياة. لكن القَدَر، شاء أن يبقى، وأن يُستشهد وهو في طريقه لعمله. ويسقط، وفي يديه رسوماته، ليبقى علامةً لفلسطين، التي وُلِدَ فيها، وهُجِّر عنها، وتزوَّج منها، ورَسَمَ لها، واحترق من أجلها، واستشهد في سبيلها لكنه لم يُدفَن فيها، بل دُفِنَ في البلد الذي باعها لعدوِّه، وكأنه أراد، أن يكون شاهداً على ظلمها له ولشعبه، كلما مرَّ أحدٌ على مقبرة بروكْوُود في لندن، حيث يرقد ناجي في لَحدِه الذي يحمل الرقم الجنائزي 230191.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3971 - الأحد 21 يوليو 2013م الموافق 12 رمضان 1434هـ
رحمه الله شهيدا وشاهدا على الظلم
كما يفعل الجبناء دائما
اغتالوا شخصه لكنهم أبقوه حيا في القلوب
رحمه الله شاهدا وشهيدا
رحم اله شرفاء الامه الاسلاميه
ناجي العلي رحمه الله كان هبه الهيه للفلسطنين والعرب فريدا في وشجاعا حقا هو من ارض فلسطين الاباء
شموخ حنظلة ..
رحل عن الدنيا ليكتب مداد حياته الأبدي مرفوع الهامة شامخا .. بينما لدينا من يعتقد أنهم يمثلون الشعب يكتبون عارهم الأبدي ..
ماشااللة
ماشااللة عليهم حتي قبورهم مرقمه أما قبور العرب عليها اعلام أو ليتات حق فليل اومشموم وسكورتيه
تسلم
بعد قراءة المقالة تتألم لحال العلي كمبدع عربي اخلص لقضيته و وطنه و يجيك زائر 2 يصمك بتعليق يرفع الضغط شكرا استاذ عالمقال زائر 2 اعد قراء المقال او على الاقل الفقرة الاخيرة فيه