العدد 3969 - الجمعة 19 يوليو 2013م الموافق 10 رمضان 1434هـ

«الكوز»... بين الفقه والموروث الثقافي الدلموني

تناولنا في الفصل السابق أهم الأصداف والقواقع البحرية التي توجد في المواقع الأثرية، ومن تلك الأنواع كان أحد أنواع القواقع وهو «الكوز» Hexaplex kuesterianus والذي يتواجد بكثرة في تلك المواقع الأثرية، وقد تم ترجيح أنه يستخدم كمصدر للغذاء. إلا أن الدراسات في المواقع الأثرية التي تعود للحقب الإسلامية (وبالخصوص منطقة سوق الخميس) أوضحت وجود هذا النوع من القواقع، أي الكوز، بصورة كبيرة جداً. إن وجود بقايا الكوز في المناطق الأثرية الإسلامية والتي عرفت تاريخياً أنها مناطق كانت، ومازالت، تعتنق المذهب الشيعي (راجع كتابنا مسجد الخميس، الحوزة الأولى) يشكك في أهمية هذه القواقع كغذاء؛ فقد كان هناك إجماع على عدم حلّية أكل حيوان البحر إذا لم يكن سمكاً أو طيراً، بما في ذلك الأصداف والقواقع، كما ذكر ذلك الشيخ النجفي (قدس سره) في كتابه «جواهر الكلام»، حيث يقول:

«ولا يؤكل منه (أي البحر) إلا ما كان سمكاً أو طيراً بلا خلاف أجده فيه بيننا، كما اعترف به في المسالك، بل عن الخلاف والغنية والسرائر والمعتبر والذكرى وفوائد الشرائع الإجماع عليه، وهو الحجة بعد تبيّنه على وجه يمكن دعوى تحصيله، وإن وسوس فيه بعض متأخري المتأخرين لاختلاف الطريقة» (النجفي 1401 هجرية، ج 36، ص 241 - 242).

حتى وإن اعترف صاحب الجواهر (قدس سره) بميل بعض متأخري المتأخرين إلى حلّية مشكوك حيوان البحر، إلا أنه لا يوافق على رأي من يقول بحليته، وقد أشار لذلك بقوله: «وحينئذ فوسوسة بعض متأخري المتأخرين في الحكم المزبور أو ميلة إلى الحل في الجملة ـ بل ربما حكي عن الصدوق أيضاً وإن كنا لم نتحققه ـ في غير محله» (النجفي 1401 هجرية، ج 36، ص 243). ويبدو أن المسألة الفقهية أعقد من ذلك ولا يمكننا أن نورد هنا كل ما جاء في هذا الموضوع، ويمكن الرجوع لتفاصيله في كتاب «ثمار البحر، نظرة فقهية جديدة» للمرجع آية الله السيدمحمد حسين فضل الله (دار الملاك، 2010م).

الأهمية الاقتصادية للكوز

إن التشكيك في استعمال «الكوز» كنوع من الغذاء يفتح مجال البحث في صناعات أخرى يستخدم فيها الكوز وكانت رائجة في العصور الإسلامية، وربما أيضاً في الحقب الدلمونية. فقد اشتهرت البحرين قديماً كمصدر لنوع من الأدوية التي يتبخر بها والتي تعرف باسم «الأظفار» والذي يأخذ من «الكوز»، وقد خص يحيى بن ماسويه (777م - 857م) الأظافر التي مصدرها البحرين بالذكر لأنها الأشهر والأكثر جودة. كذلك فقد رجح Smith وجود صنعة تحضير نوع من الأصباغ، الصبغة الأرجوانية، من حيوان «الكوز» في العصور الإسلامية. كلا الصناعتين، تحضير الأظفار وتحضير الصبغة الأرجوانية من حيوان الكوز، كانت معروفة في حضارة وادي الرافدين والخليج العربي منذ العصور القديمة. فهل كانت هذه الصناعات رائجة في دلمون؟ وهل بقايا الكوز في المواقع الأثرية تشير لأماكن تصنيع هذه المنتجات؟ فصناعة الفخار كانت رائجة في البحرين منذ أكثر من 4000 آلاف عام، وكذلك صنعة النسيج، اشتهرت بها دلمون وبقيت ممتدة يتوارثها الأبناء والأحفاد (راجع كتابنا مهنة النسيج)؛ وعليه فلابد لنا أن نتناول تاريخ هذه المهن بصورة تسلسلية وذكر الدلائل على وجودها في المنطقة، وسنبدأ بصنعة تحضير الصبغة الأرجوانية من حيوان الكوز.

إنتاج الصبغة الأرجوانية

في إقليم دلمون

منذ نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد عرفت الشعوب القديمة وبالخصوص الفينيقيون وغيرهم من شعوب البحر المتوسط طريقة استخلاص الصبغة الأرجوانية من غدة خاصة، تسمى الغدة التحت خيشومية، التي توجد في عددٍ من القواقع البحرية، وقد اشتهرت أنواع محددة من القواقع، ففي البحر المتوسط اشتهر كوز البحر المتوسط وهو Hexaplex trunculus، وفي مناطق أخرى أنواع من قواقع أخرى منها ما ينتمي لجنس Thais وهو ما يهمنا هنا (Koren 2005).

عثر في أحد المواقع الأثرية في قطر على ركام من الأصداف يعود تاريخه للألف الثاني قبل الميلاد، ويمثل هذا الركام (والموقع نفسه) امتداداً لإقليم دلمون؛ حيث عثر فيه على فخار باربار الذي يميز المدينة الثانية في موقع قلعة البحرين. أما الأصداف التي تسود في هذا الركام فهي نوع من القواقع تسميه العامة في البحرين وقطر «بو عَلُوه» واسمه العلمي Thais savignyi، وقد درس Eden هذا الموقع واستنتج أنه موقع لتحضير الصبغة الأرجوانية وقدم نتائج دراسته في أطروحته التي نال عليها درجة الدكتوراه في العام 1987م والمعنونة A late second millennium B. C. purple dye industry in Qatar. وقد ساق Eden العديد من الدلائل التي تثبت نظريته. بالمقابل، لا توجد دراسات علمية دقيقة أجريت على ركام الأصداف في البحرين والذي يكثر فيه بقايا الكوز Hexaplex kuesterianus والذي يعتبر أيضاً مصدراً للصبغة الأرجوانية.

تحضير الصبغة الأرجوانية في البلاد القديم

في العام 2001م قامت بعثة بقيادة Timothy Insoll بالتنقيب في موقع سوق الخميس والمناطق المجاورة لمسجد الخميس في منطقة البلاد القديم. وقد كان التركيز على الحقب الإسلامية الممتدة من القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد تم نشر التقارير الأولية لهذه البعثة في كتاب The land of Enki الذي صدر العام 2005م. ومن ضمن هذه التقارير كان تقرير Smith عن بقايا الحيوانات (باستثناء بقايا الأسماك) في منطقة سوق الخميس. وقد كشفت هذه الدراسة عن وجود بقايا كثيرة للقوقعة من نوع «الكوز» في جميع الحقب الإسلامية الممتدة من القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد كانت الغالبية العظمى للقواقع مكسرة ما يرجح أنها لم تكن تستخدم كغذاء، إلا أن خيار استخدامها كغذاء لم يستبعد كلياً، إلا أن Smith رجح أمراً آخر، وهو استعمالها لاستخلاص الصبغة الأرجوانية منها (Smith 2005, p.222). هذا وقد ذكر كل من Smith وInsoll أدلة تدل على استعمال الصبغة الأرجوانية في البحرين حيث ذكرا عدداً من قطع الفخار المغطاة بطبقة قشرية سميكة عليها بقايا اللون الأرجواني وهو ما اعتبراه دليلاً على تحضير الصبغة الأرجوانية واستعمالها في البحرين في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين (Smith 2005, p.222) و(Insoll 2005, p.327 - 328). بالطبع هناك استعمال آخر للكوز ولا يقل أهمية عن تحضير الصبغة الأرجوانية وهو ما سنتناوله في الفصل المقبل.

مما سبق نستنتج أهمية اقتصادية كبيرة للكوز وللأصداف بصورة عامة تستدعي التوقف والبحث عندها وتستدعي القيام بدراسات مستقبلية جديدة للكشف عن نتائج جديدة.

العدد 3969 - الجمعة 19 يوليو 2013م الموافق 10 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً