تَتَّحِد الأقليَّة مع بعضها أكثر من اتحاد الأكثرية مع بعضها. أو لِنقل، فرص اتحادها يكون عادةً أكثر. الأسباب في ذلك معروفة، فهذه الأقليَّة ترى نفسها ضئيلة الحيِّز، أمام حَيِّزٍ ممتد (عند الأكثرية)، وشحيحة القوَّة، أمام قوَّة أكبر، وقليلة الخيارات، أمام خيارات أكثر. كما أنها ترى، بأن الأكثرية، تنزع منها العيش بخصوصياتها الذاتية، وترغمها على الذوبان في المجموع.
هنا، ينشأ لديها (أي الأقليَّة) شعور طبيعي، وغير مُنظم، نحو التقارب باتجاه بعضها، وذلك لتشكيل الشعور بالكثرة العددية «وإن كانت محدودة إلاَّ أنها مرئيَّة»، والظهور بصورة الكتلة، التي تجمعها مصالح مشتركة، وسلوكيات متماثلة، وانتماءات نَسَبيَّة/ ثقافية/ دينية لها حظٌ أكبر من الالتقاء، بحيث تكون متقاربةً (ولا نقول مُتجانسة) من ذواتها.
ولو عرَّجنا على كثير من الأقليَّات العِرقية والدينية والثقافية العالمية، فإننا سنرى كيف تشتغل لديها تلك الدوافع. الدروز، البهائية، الصوفية، البُهرَة، شركس وكذلك ديانات الشرق وجنوب شرق آسيا. بل إنني وَجَدتُ أن بعضاً من تلك الأقليَّات، يتَّبع نظاماً صارماً في التصاهر، والاندماج النَّسَبي، إلى الحد الذي لا تسمح لمعتنقيها الزواج، حتى ولو لم يكن متديناً، فيكون جزاؤه الطرد.
هنا، آتي إلى تشخيص المسألة بطريقةٍ أخرى، لأقيم هذا التساؤل: كيف يُمكن تطبيق شعور الأقليَّة، على الأكثريَّة، بحيث تشعر تلك الأكثريَّة، بما تشعر به الأقليَّة؟ ثم، ما هي الأسباب التي تُنشِّئُ لدى الأقليَّة، مجموعة المصالح والمشتركات التي تجعل قابليَّتها للتوحُّد أكثر من غيرها؟
الحقيقة أن السلوك هو مُكتَسَب، والتصاهر يفرضه الواقع، والظروف الثقافية تخلقها الأرض ويخلقها التاريخ. بل حتى الأديان، لا تأتي كمُركَّبات جينية لدى البشر، وإنما «كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وأبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِه». وبالتالي، فإن كلَّ تلك الأشياء، قابلةٌ للنشوء في ظروف جديدة، ليس لها شأنٌ بالأقليَّة أو الأكثريَّة. هذه القَفلَة، هي التي وددتُ الإشارة إليها في هذا المقالة.
مدعاة الكلام، هو أن ما يُفسِد على المجتمعات والشعوب عيشها، هو التقسيمات والتباينات العدديَّة، والثقافية، والدينية وخلافها. وعندما تنشأ مثل تلك التقسيمات، فهذا يعني أننا أمام مشهد داخلي متقاطع في مصالحه ورؤاه، الأمر الذي يُؤثر بشكل مباشر على قضايا الهوية والانتماء.
بالتأكيد، لا يُمكن تغيير ما جُبِلَ عليه الناس من اختلافات ومشارب، لكن الحديث هو حول صناعة مشهد جديد داخل المسار الديني والاجتماعي والثقافي عند الشعوب، يقوم على إنشاء شعور متماثل بين الناس. فما دام السلوك نابعاً من التأثيرات البيئية، فهذا يعني، أننا قادرون على خلق بيئة مشتركة، تدفع باتجاه إنتاج سلوك مشترك أيضاً. ما دام السلوك هو أحد مُكوِّنات الشعور الأقلِّي.
وما دامت الثقافة هي وليدة بيئتها، فهذا يعني أننا قادرون أيضاً على إنتاج ثقافة مشتركة، تُغطِّي بيئتنا ولو بمقدار. وعندما يتحقق مثل ذلك الأمر، فإنك تستطيع أن تُنتِج جيلاً قريباً من بعضه. وعلى الأقل، لا يرى في الأشياء المتغايرة إلاَّ كونها فروعاً عَرَضِيَّة، لا يجب الالتفات لها.
أما الأديان (والتي تعتبر أكثر الأمور صلابةً) فإن اللاممكن فيها هو المحو والإلغاء، لكن رَصْد ما يجمعها، وتفتيت البؤر الجغرافية الحاضنة لها، بجعلها متجاورة على الأرض، فضلاً عن تصاهر منتسبيها في الدَّم، هو الممكن معها. وقد وَجَدتُ ذلك مُتحققٌ في كثير من الدول، ولم يعد أمراً مُستحيلاً. وربما أستطيع أن أستدلّ على ذلك بتجارب شاهدتها عن قرب في الهند وسيرلانكا.
في حين، فشلت دولٌ أخرى، كبورما عندما ظلت علاقات الدولة والمجتمع، متشظية ما بين الأديان والأعراق (والشعور المُجزَّأ) من بوذية ومسلمين (الذين يتعرض الروهينجياس منهم لقتل واضطهاد ظالم) إلى الوا والشان والكارين والكاريني والشين، وأضرابها. وربما مؤخراً، بدأ الالتفات إلى أساس المشكلة في ذلك البلد، بالإعلان عن مجموعة من الحوارات والاتفاقات مع تلك الإثنيات.
إن تذويب مشاعر الأقليَّة والأكثرية، وجعله شعوراً عاماً مشتركاً، لهو من أكثر الإنجازات التي حققها مفهوم الدولة في أوروبا، وكذلك في دول عديدة في الشرق أيضاً. فلم تعد الهويَّة والوطنية مشطورة على سُمُوط متعددة، الأمر الذي انعكس مباشرة على أداء الدولة وأمنها القومي وعلى مناعتها الداخلية، وعلى حضورها النفسي والشعوري عند الناس.
والحقيقة، أن الوصول إلى مثل هذا التأسيس، يتطلب مسئولية مشتركة، من الدولة والأمة. الأولى عليها مسئولية تطبيق نظام عدالة صارم، يتساوَى فيه الجميع، ويحصلون فيه على كافة الامتيازات بدون تفرقة، كي يروا أنفسهم ممثَّلِيْن فيها، والثانية (وهي الأمة)، عليها مسئولية الخروج عن العصبيات، والقبول بالاندماج الطوعي، ثقافياً ودينياً وسياسياً وغيره.
اليوم، فإن الوصول إلى مشتركات أعَم، والحصول على مشاعر متقاربة في العَيْش، لهي من أكثر الأشياء قدرة على إنبات هويَّة متماسكة، ووطنيَّة عابرة للانتماءات الفرعية. إذ لا يُمكن أن تتطور حياة البشر ميكانيكياً، وعلى مستوى الماديات، دون أن يكون هناك تطور على مستوى الأذهان والأفكار، وفي النظرة إلى الأشياء، وإلاَّ أصبح تطورنا الأول لا معنى له، ولا يقوم على أساس متين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3969 - الجمعة 19 يوليو 2013م الموافق 10 رمضان 1434هـ
تنويه
مقال جميل جدا ويعالج أزمة حقيقية نعايشها. كلمة اخيرة للمتداخل رقم 3: ياريت تفهم المقال بشكل جيد حتي لو استعنت بصديق فهو افضل لك وهذه نصيحة أخوية لك لأن الكاتب يتحدث عن موضوع وانته فاهم الفكرة بالخطأ وتتكلم عن المريخ
اخ العزيز الكاتب محمد عبدالله
انت مع الاكثرية في البحرين مع التيار المحافظ ضد الاكثرية في ايران التيار الاصلاحي انت لم تعدل في انصاف الاصلاحين فلا تتكلم عن الاقلية والاكثرية، انت متحيز بشكل عمياني و بشكل مطلق لنفسك ومتعصب لنفسك وتحليلك لا ترى الواقع الحقيقي والحق في الشارع الاكثرية الايرانية الاصلاحيه في مواضيعك وتحليلاتك عن الوضع السياسي في ايران
الاصلاحيون طائفيون كغيرهم
الإصلاحيون في إيران عنصريون ضد العرب وطائفيون ضد السنة! ماذا فعلوا لأهل السنة في طهران هل بنوا لهم مسجد؟! هل ساعدوا العرب في الاحواز على نيل حقوقهم؟! تذكروا جميعا كيف فعل شيوخ الاصلاحيين بالاكراد السنة في إيران عبر فتاواهم! هم جميعا يتبعون الحكم المطلق لا فرق بينهم وبين المحافظين سوى في التسميات
سؤال؟؟؟
""مدعاة الكلام، هو أن ما يُفسِد على المجتمعات والشعوب عيشها، هو التقسيمات والتباينات العدديَّة، والثقافية، والدينية وخلافها. وعندما تنشأ مثل تلك التقسيمات، فهذا يعني أننا أمام مشهد داخلي متقاطع في مصالحه وورؤاه، الأمر الذي يُؤثر بشكل مباشر على قضايا الهوية والانتماء."" من الذى وضع هذه الأصول الإجتماعية غير هذه البشر المخلوق الغبى؟؟؟؟؟؟؟
وهو من يزيلها
وهو الذي يستطيع تغييرها فلنفعل