مرة أخرى، اختار العسكريون في مصر أن ينحازوا إلى انتفاضة الشعب، وكانت هذه المرة موجهة ضد سياسة الأخونة والإقصاء والاستحواذ على السلطة التي اعتمدها الرئيس محمد مرسي خلال عام من حكمه. جرت «أخونة» الوزارات والمؤسسات الحكومية، والثقافة والفنون، وأجهزة الأمن. وتصرف مرسي، على أنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين، وليس رئيساً لكل المصريين.
خلال عام من حكم الإخوان، تضاعفت الأزمة الاقتصادية التي كانت أهم مبررات الثورة على النظام السابق، وحدث انفلات أمني، لم تشهده مصر في تاريخها المعاصر. وجرى تسامح كبير مع قوى الإرهاب، وأخلي سبيل القتلة من السجون، ونصّبوا في وظائف متقدمة في الدولة المصرية. وكان الأبرز بينهم، قاتل المفكر فرج فودة الذي خرج إلى العلن، وفي الفضائيات متفاخراً بجريمته، بعد إطلاق سراحه. كما جرى تسعير طائفي وديني غير مسبوق في أرض الكنانة.
تعلم شعب مصر من انتفاضته السابقة، في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، تخطي حاجز الخوف، وكيف أنه بخروجه أعزل إلا من إيمانه بقضيته، غدا قادراً على كسر قيوده وفرض إرادته. وهكذا كانت اندفاعته الأسطورية الكبرى، في 30 يونيو/ حزيران التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، في أي بلد من بلدان العالم، خلاصاً من التشرنق في الأوهام والخزعبلات، وعبوراً إلى المستقبل.
هذا الحديث، لا يتناول مصر المستقبل، فذلك ما ستكون له وقفات عدة، في أحاديث قادمة، ولكنه مكرس للمعنى التاريخي لانتفاضة الثلاثين من يونيو. وبالنسبة لنا، فإن أهمية ما جرى، لا تكمن في إنهاء نظام إقصائي ومستبد، أتيح له أن يتسلم الحكم في أرض الكنانة عاماً واحداً، واستبداله بآخر، ولكن لأن ما حدث هو نهاية لمرحلة جثمت على صدورنا أكثر من أربعة عقود، هي مرحلة انتعاش الإسلام السياسي، وبداية مرحلة أخرى.
تأسست جماعة الإخوان المسلمين كجمعية دينية، في مدينة الإسماعيلية، العام 1928، على يد الشيخ حسن البنا الذي أصبح مرشداً للجماعة حتى اغتياله العام 1949. وخلال أكثر من ثمانين عاماً من عمرها، مرت بظروف معقدة ومربكة، واتسمت سياستها بالعداء والمقاومة للدولة المدنية.
كان توقيت تأسيس الجماعة مع تصاعد دور حزب الوفد، الحزب الوطني المرموق، قد أوحى كأن الهدف من تأسيس الإخوان المسلمين هو تعطيل نضال الوفد، في مواجهة الاحتلال البريطاني. وقد عضد من هذا الاستنتاج ما تسرب عن تقديم شركة قناة السويس دعماً مالياً للجماعة. ومن المؤكد أن مناصرة الجماعة لسلطة إسماعيل صدقي باشا الذي تولى رئاسة الحكومة المصرية، منذ العام 1930، بعد سنتين من تأسيس الحركة، والذي عرف بالاستبداد والاعتداء على الدستور والحريات والتقرب من الاحتلال البريطاني، ومطاردة وقمع الحركة الوطنية المصرية التي يقودها آنذاك حزب الوفد، من المظاهر التي طبعت سلوك جماعة الإخوان في مسيرتهم الطويلة.
وكان مبرر الإخوان في تأييدهم لحكومة صدقي، في تصديه لمعركة الشعب من أجل الدفاع عن الدستور، أنهم أداروا ظهرهم للانتفاضة الشعبية، لأنهم قرروا الانصراف لشؤون العالم الإسلامي، باعتبار أن رسالتهم السياسية عالمية وليست وطنية. لكن هذا القول لم يصمد كثيراً، فقد اصطدموا في نهاية الأربعينيات مع حكومة محمود النقراشي العام 1948. وقام أحد أعضاء القسم السري الخاص باغتيال النقراشي، وتولى رئاسة الحكومة إبراهيم عبدالهادي، وفي عهده اغتيل المرشد العام للجماعة، الشيخ حسن البنا، انتقاماً من اغتيال النقراشي لتواجه الجماعة أول انتكاسة حقيقية منذ تأسيسها.
ومرة أخرى، مارس الإخوان السلوك ذاته، بعد ثورة 23 يوليو عام 1952. فقد تلكأوا في مناصرتها، ثم أعلنوا عن تأييدهم لها بعد أيام. لكنهم رفضوا الالتحاق بالمقاومة الشعبية ضد البريطانيين في السويس. وذريعتهم كما أبلغ بذلك مرشد الجماعة الشيخ حسن الهضيبي للرئيس عبدالناصر، هي أن تحرير السويس، قضية وطنية صرفة، ورسالة الإخوان عالمية، وأن لكم أولوياتكم ولنا أولوياتنا، وأولوياتنا ليست في السويس.
ناصرت الجماعة الرئيس عبدالناصر، في قراره حل الأحزاب السياسية، بحسبان أنها ستكون القوة المدنية الوحيدة المتبقية في الميدان، لكنهم انقلبوا على الثورة، حين تأكدوا أن قادتها لن يخضعوا لابتزازهم. وفي 1954 أقدموا على محاولة اغتيال الرئيس عبدالناصر، في احتفال بالمنشية بمدينة الإسكندرية.
وفي حينه، واجهت الجماعة أصعب ظروفها، حيث حكم بالإعدام على بعض قادتها، وأودع في السجون عدد آخر منهم، وفرّ من تمكن من الهرب إلى الخارج. وبعد عقدٍ من هذا التاريخ، اتهم الإخوان بمحاولة الانقلاب على الحكم في مصر، وألقي القبض مرة أخرى على قادتهم. وكان الأبرز بينهم، هو سيد قطب الذي عرف بكتاباته المتشددة، وبالتنظير عن دار الإسلام ودار الكفر. وقد حوكم وصدر بحقه حكم بالإعدام ونفذ به.
إثر نكسة يونيو/ حزيران 1967، تراجع دور الحركة القومية، ليتبع ذلك تراجع للحركة اليسارية والليبرالية وفكرة الدولة المدنية. وليعيش الفكر السياسي العربي، ما يقترب من السبات لأكثر من ثلاثة عقود، برزت خلالها ما أطلق عليها بالصحوة الإسلامية. وخلال هذه الحقبة نشطت جماعات الإخوان المسلمين، في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وفرخت تنظيمات إرهابية، كالتكفير والهجرة التي نفذت تفجيرات وعمليات خطف في مصر، واغتيل الرئيس المصري أنور السادات. كما نشأ لاحقاً تنظيم القاعدة، وتنظيمات إرهابية أخرى بمسميات مختلفة.
وبالقدر الذي تنمو فيه تنظيمات الإسلام السياسي، تتراجع قيم الحرية والدولة المدنية، وتنتشر الأوهام، والضيق بفكر التسامح، ويسود التعصب والغلو، ولا يبقى سوى الرهان على المستقبل.
خروج الإخوان من السلطة في مصر بإرادة شعبية، هو بداية العد التنازلي لحقبة التيار الإسلامي السياسي في الوطن العربي، بمختلف تنوعاته وتشعباته، وهو استعادة الأمة للبوصلة، باتجاه مواصلة مشروعها الحضاري، والتأسيس لبروز الدولة المدنية، دولة العدل والقانون والإبداع وسيادة قيم التسامح.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3961 - الخميس 11 يوليو 2013م الموافق 02 رمضان 1434هـ