كارثة تشرنوبل النووية تشكل بكل المقاييس والمواصفات عاصفة كونية، وهي محفوظة في ذاكرة التاريخ الإنساني ومحفورة في مخيلة من شهد أحداثها عن قرب، كأكثر أحداث القرن العشرين خطراً على واقع الأمن الإنساني. وتعتبر من أكثر الكوارث الإنسانية المثيرة للجدل وذلك نتيجة الغموض الذي أحيط بواقع أحداثها وجعلها وسط غابة مظلمة، استحال على من هو خارج دائرة أحداثها معرفة حقيقة ما هو جار، وتقييم ما ينتظر البشرية والأجيال المقبلة من مخاطر.
تلك المحنة الإنسانية، والأضرار التي ما كان لها أن تكون، في ما لو تعقل الإنسان بما يفكر أن يفعله ويخطط لتشييده وتنفيذه، وارتكز في سياق نشاطاته وخططه وبرامجه التنموية، على أسس علمية سليمة، يراعي في منهجها الأبعاد الإنسانية والبيئية في التخطيط والعمل والتنفيذ.
والكارثة حدث مأساوي ليس للشعب الأوكراني وحده الذي عاش الرعب والارتباك، بل كان بمثابة العاصفة التي أحدثت حالةً من الفزع الحقيقي لشعوب البلدان المجاورة وشعوب العالم أجمع، وكان لعنصر الخوف من المجهول ومن مخاطر الدمار النووي، وعامل المفاجأة في وقوع الحادث، وانعدام المعلومات الفعلية عن ما هو جارٍ، وعدم وجود خطة للاستعداد المبكر لمواجهة مثل هكذا حوادث، الأثر الفعلي لما أفرزته تلك الحادثة من آثار مأساوية.
وعلى الرغم من الفترة الزمنية غير القصيرة التي تفصلنا عن تاريخ وقوع الكارثة، إلا أنه لم يجرِ الكشف بشكل دقيق عن محددات الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة، ومن الضروري ونحن نستعرض واحدة من المآسي العالمية المهمة، أن نشير إلى أن الأضرار الشاملة الناجمة عن كارثة «تشرنوبل» لم تكن نتيجة الخلل في التفكير والإدارة غير السليمة للمحطة فحسب، بل هي أيضاً نتيجة عوامل متداخلة ذات أبعاد سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى عامل الفساد الإداري والمحسوبية الشخصية، التي كان لها عميق الأثر في مضاعفة آثارها الوطنية والكونية.
ومن المعروف أن محطة تشرنوبل النووية من المشاريع الاقتصادية الكبرى، وكانت محط اهتمام الكثير من الباحثين عن أفضليات العمل في هكذا مشاريع، والعمل في المحطة كان له أفضلياته من حيث الراتب والسكن والضمان الصحي والاجتماعي وخصوصية الإجازات السنوية والحق في الحصول على أفضل الأماكن الصحية للراحة والاستجمام. وكان ذلك عاملاً رئيساً في تهميش الكفاءات وتفشّي ظاهرة المحسوبية الشخصية والحزبية والأسرية في اختيار الكادر الفني والإداري، ما تسبّب في ضعف الكفاءة لدى العاملين في المحطة، وسيطرة العنصر الأسري في تبوء المواقع القيادية في السلم الإداري والوظيفي، وترك أثره الفعلي على مفاهيم القرارات الفنية في فلسفة إدارة الانتاج في منظومة عمل المحطة، وتلك أحد العوامل الرئيسة التي تسببت في الإخلال بأبجديات العمل الإداري والفني، والتسبّب في وقوع كارثة تشرنوبل النووية، والتي أكدت خطأها الكارثي.
وعلى صعيد آخر فإن حجب المعلومات الدقيقة فيما يخص المخاطر الناجمة عن الكارثة، وتسييس المشكلة وعدم اطلاع الشعب على ما كان يدور في حقيقة الأمر، الأثر الفعلي في تزايد حجم ومستوى الأضرار التي تركتها الكارثة على قطاعات واسعة من السكان، خصوصاً في منطقة الحزام المجاور لمحطة «تشرنوبل».
ومن الطبيعي أن لا نغفل أيضاً المسائل المرتبطة بالالتزامات المحددة في المواثيق الدولية التي تشكل ركيزة محورية في منظومة إجراءات العمل لمكافحة الحوادث الطارئة، والتي هي على قدر كبير من الأهمية في تفعيل إجراءات الوقاية، حيث يتسبب الإخلال بها في مضاعفة الأضرار في مثل هكذا حوادث. وكان لعدم الأخذ في الاعتبار ضمان أن لا تتسبب الأنشطة الوطنية في الأضرار بالدول الأخرى وما يتطلبه ذلك من ضرورة التعاون بشفافية في إبلاغ الدول المجاورة عن الحادثة في الوقت المناسب، كان لذلك أثره في التسبب بمضاعفة أضرار الكارثة الكونية.
ومن ثوابت الالتزامات التي لم يجرِ الأخذ بها وينبغي الإشارة إليها، ما يجري التأكيد عليه في المبدأ (21) من وثيقة إعلان استوكهولم لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية (1972)، والذي يؤكد على أن الدول «تتحمل مسئولية ضمان أن الأنشطة المضطلع بها داخل حدود سلطتها أو تحت رقابتها لا تضر ببيئة دولة أخرى أو بيئة مناطق تقع خارج حدود الولاية القومية».
إن أحداث «تشرنول» وما رافقها من خلل بائن في جوانب الالتزام بثوابت إجراءات الوقاية لضمان عدم التسبب في تعريض الدول الأخرى إلى الأضرار نتيجة حجب المعلومات الناتجة من الحوادث الطارئة، ترك أثره الفعلي على قرارات ريو بشأن البيئة والتنمية (1992)، وذلك ما نتبينه في المبدأ (18) من إعلان ريو، الذي يؤكد على أن «تقوم الدول بإخطار الدول الأخرى على الفور بأية كوارث طبيعية أو غيرها من حالات الطوارئ التي يحتمل أن تسفر عن آثار ضارة مفاجئة على بيئة تلك الدول، ويبذل المجتمع الدولي كل جهد ممكن لمساعدة الدول المنكوبة على هذا النحو».
خلاصة القول أن «تشرنوبل» إرث ثقيل ودرس أكثر ثقلاً وعمقاً، ذلك الذي قذفت به أحداث الكارثة إلى سطح محيط العلاقات الدولية، ويبقى قائماً ضمن أجندة مسئوليات المجتمع الدولي في انتظار الاجابة.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3947 - الخميس 27 يونيو 2013م الموافق 18 شعبان 1434هـ