العدد 3946 - الأربعاء 26 يونيو 2013م الموافق 17 شعبان 1434هـ

الطائفية وإعادة تقييم التاريخ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من أهم مُغذِّيات الطائفية التي تجتاح ثقافتنا وديننا وجغرافيتنا وسياستنا، هي إعادة تقييم التاريخ. وما أعنيه بتقييم التاريخ هو تقييم أحداثه وشخوصه وموضوعاته بالسَّواء. عفواً، بل ليس فقط إعادة تقييمه (فهي كلمة مُنَعَّمَة وقد تكون مُبَسَّطَة) بل معاداته، عبر شيطنة ذات الأركان الثلاثة المذكورة: الأحداث، الشخوص والموضوعات وعكسها على الحاضر.

استدعاء التاريخ الديني (المتقاتِل) ليصبح حاضراً مُصطنعاً بالقوة، ثم ترحيل الحاضر كمقطع زمني طبيعي «قسراً» إلى مكان مجهول، تضيع فيه المشتركات، وعِمارة الأرض، والتشاركية، والعلاقات الإنسانية الأوسع، قد أنتَجَ لنا زمناً كسيحاً غير متجانس، ينفي عن نفسه التراكمية، وينغمس في إعادة ذات الأدوار دون تطوّر ولا نمو.

جاء عصر النبوة، ثم تلاه العهد الراشدي فالأموي فالعباسي ثم قامت دول إسلامية وإمارات شتى في آسيا الوسطى وشمال إفريقيا وفي الجزيرة العربية. وفي كل تلك الدول والحروب، سَقَطَ قتلى وجرحى وظَهَرَت فتاوى وأفكار، واتجاهات واصطفافات.

هنا، هل نحن مسئولون بأن نرتهن إلى صراعات ذلك التاريخ، فنصوغ حاضرنا على أثير أحداثه؟ إذا كان نعم، فبأيِّ مُسوِّغ نحن نعيش كمُعَمِّرين لهذه الأرض؟ وهل خَلَقَنَا الله تعالى لكي نعيش كل هذه السنين، من أجل الأخذ بثارات الأقدمين ضد خصومهم؟ متناسين مسئوليتنا الأساسية كبشر، جُبِلوا على التراحم والتزاوج والهجرة والتعارف؟

إذا كان الحال كذلك، فما نحن إلاَّ سيوفاً يُتَقاتَل بها، وأكتافاً يُتدافع عليها، وسُروجاً يُركَب عليها. وإذا كان الحال كذلك، فما نحن إلاَّ متبارزين، قَتَلَة، جاهليين وأهل جاهلية، لا ننسى ما فعله كُلَيبٌ بناقة البسوس، ولا جَسَّاسٌ بكُلَيْب! هذا جنونٌ بيِّن، وانتحارٌ جماعي في صحراء مُقفرة. إنه البُلهُ بتمامه وكماله، لا تفسير له غير ذلك ولا وصف آخر.

كلما نكأنا جراح التقاتل في العهود الغابرة، غار الجرح بعمق، حتى وَلَغَنا في الدم، فنَخَرَنا العظم، ووصل الألم إلى منتهاه، في حين، كان تركه كفيلاًً بأن يندمل ويبرأ، وتتلاشى بثوره إلى غير رجعة، فتصحّ عافية الجسم. لكننا ومع شديد الأسف، قُساةٌ على أنفسنا وبعضنا، بطريقة غريبة، لا حدَّ لها، وكأننا بشرٌ نعيش بأدواء النفوس صباح مساء.

تقاتل المسيحيون (كاثوليك/ بروتستانت) مئات السنين، وذبحوا بعضهم ما ذبحوا، وهُتِكَت الأعراض، وشابت الولدان من هول المصاب، لكنهم وحين أرادوا التخلص من ذلك الجنون الطائفي، والتعصب الأعمى وضعوا حداً بينهم وبين ذلك التاريخ السيء، لا يستدعونه ولا يستظلون به، وأقاموا لهم حاضراً ينسجم مع إنسانيتهم كبشر، لا كوحوش كاسرة دموية، تريد أن تقتص من الآخر، في سبيل معركة انقضت في كانتونات سويسرا قبل مئات السنين.

هل وجدتم مسيحياً يتحدّث اليوم عما فعلته المسيحية الوسيطية مع غير المؤمنين؟ أو أن أحداً لازال يتحدث عن مارسيل البادواني؟ أو عن سيئات المهرطقين؟ أو ما جرى بين لوثر والأناباتيست؟ وهل وجدتم كنيسة تحمل ثأراً لمونتزر؟ وهل انتفخت أوداج المسيحيين لإعدام ميشال سرفيه؟ أو تشنَّفت أسماعهم اليوم لسجالات كالفن وزوكيندن؟

لا يوجد شيء من ذلك. ولو أنهم رهنوا أنفسهم لتلك المآسي، لما وجدتم اليوم عالَماً أولاً، ولا دولة ديمقراطية، ولا مواطنة حقيقية، يتساوى فيها الجميع، ولا كراسي رسولية لا تضع أنفها في السياسة. ولو لم يكن ذلك الفصل، لوجدنا التطييف على أشُدِّه في كل أرجاء القارة، فلا اتحاد أوروبي، ولا سوق مشتركة، ولا حلفٌ أطلسي، ولا يورو ولا أية مشتركات لا تقبلها الطائفية.

لقد كانت الحرب العالمية الثانية الاختبار الأكبر للمسألة الطائفية في أوروبا. فخلال تلك الحرب، لم تقِف بروتستانتية بريطانيا من الدفاع عن فرنسا الكاثوليكية! ولم نجد غضاضة عند الفرنسيين الكاثوليك، من أن يتحالفوا مع البريطانيين البروتستانت، ضد ألمانيا الكاثوليكية. لأنهم أدركوا جيداً، بأن الصراع الذي كان قائماً، هو سياسي بامتياز، رغم احتماء النازية بالكنيسة الألمانية لكسب الشرعية في مواجهة قوات الحلفاء.

أما نحن، فكل شيء عندنا له صِلة بالطائفية والتمذهب. حتى الأسماء باتت تُطيَّف، رغم أن أصحابها كانوا قامات رفيعة في زمن مضى، في حين حشرناها بين زواريبنا المظلمة، وتقسيماتنا العنصرية. أنظروا لهذا الجهل؟ أما صراعاتنا السياسية، فحدّث ولا حرج. فكلما سُلَّ سيفٌ في معركة، جُرَّ إلى جذور دينية، حيث تنتظره إفاضات الطائفية الكريهة، فتوجهه كيفما تريد، طمعاً في الدم في عروقه للحَمِيَّة البلهاء.

لا نستطيع أن ننظر إلى الأشياء إلاَّ من هذا المنطلق الطائفي العَفِن. وقد ألقى ذلك النظر القصير، بظلاله حتى على سيكولوجيتنا، فتحوَّل الكثيرون إلى ساديين في كلامهم وفِعلهم ضد الآخر. حتى الطباع الإنسانية وفطرتنا تلوَّثت، وأصبحت لا تتحرك الأخلاق إلاَّ باتجاه طائفي، وتنكسر الأقلام، حين تصل إلى تماس الآخر، حتى ولو كان فيه ظلم بيِّن.

بل بات بعض المرضى من الطائفيين، يستشعرون الرضا والأمان، وهم في أحضان أعداء ما وراء الأطلسي، ولا يُحسُّون بذلك، وهم مع مَنْ يؤمنون معهم في الخالق والأرض والأصول ومشتركات الفقه وخلافه. ويُفاضلون بدون حياء بين أولئك وهؤلاء، وينصرون أولئك على هؤلاء، وكأن المفاهيم لديهم قد تبدلت، فلم يُصبح الخير خيراً ولا الشر شراً.

وربما أذكر هنا ما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، حين ذكر هذه القصة: عَجَزَت جيوش العدو عن فَتحِ اصفهان حتى اختَلَفَ أهلها وهم طائفتان من المسلمين، وبينهم حروبٌ مُتصلةٌ وعصبيَّةٌ ظاهرة. فَخَرَجَ قومٌ من أصحابِ الطائفة الأولى إلى مَنْ يُجاورهم ويُتاخِمهم من ممالِك العدو فقالوا لهم: اقصدوا البلدَ حتى نُسَلِّمه إليكم، فجاءت جيوشُ الأعداء وحاصرت اصفهان، وفَتَحَ هؤلاء أبوابَ البلد على عهدٍ بينهم وبين الأعداء أن يقتلوا الطائفة الثانية ويعفوا عن الطائفة الأولى. فلما دخلوا البلد، بدأوا بهم فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ثم قتلوا الطائفة الثانية ثم سائر الناس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3946 - الأربعاء 26 يونيو 2013م الموافق 17 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 7:31 ص

      استحضار النصوص والأحداث لواقع متخلف عن واقعنا المعاش واسقاطها ميكانيكيا عليه هو لب مأساتنا الطائفية .. البارباري

      شكرا للكاتب فقد أصاب كبد الحقيقة حقيقة ما نعانيه من مرض طائفي المتمثل في استحضار وأستدعاء نصوص وأحداث تعود الى واقع مختلف تماما عن واقعنا الحاضر الذي نعيشه من دون استثناء طائفة دون أخرى ومحاولة التعايش مع تلك النصوص والأحداث من دون الأدراك بحركة التاريخ والأختلافات التي أحدثها ذلك الحراك في جوهر الواقع فواقع الخلفاء والدولة الأموية والعباسية الذي يمتاز بقوة الرابطة القبلية ولو كان في اطار الرابطة الدينية يختلف تماما عن واقعنا المعاش الذي يتمثل في رابطة المواطنة من دون الأخد بالأنتماء الديني

    • زائر 5 | 2:22 ص

      الواقع

      لقد استخدمت بريطانيا الطائفية في الهند وفي الخليج لذا فهي وسيلة من وسائل شق المجتمعات للانشغال بنفسها عن عدوها!! لاحد يقول هذا منطق مؤامرة هذا واقع قائم ولاحد يتفلسف

    • زائر 4 | 2:20 ص

      باركالله فيك

      كان صعب الحديث او الاشلرة الى مواضيع الطائفيه ولكن الان صارت من احاديث المجالس والكتاب ايضا ،،، اما الناس العاديين فيستميتون يوما في محاولات التواصل مع الطائفة الاخرى لتطمينهم على عدم الموافقة على خسارة الود بعد ان نهش فئة منهم على جدران الطائفية وكما قال الاوليين " اللي تغلب بو العب بو"

    • زائر 3 | 12:54 ص

      من يغذي الطائفية هم الجهلاء من الجانبين ومن يستفيد منها هم المتنفذون والمتمصلحون

      هي اداة سهلة وصالحة لكل مكان وزمان لتنفيذ اجندات الشياطين

    • زائر 2 | 12:09 ص

      مصادر الطوفه والطوفنه والطائفيه

      ليس سراً لكن جهرأً عملوها أولاد الأباليس أو أولاد الأباليس مثل ما يقول معض من الشعوب في مصر عايشين. فلا مشكله في تاريخ الهجري أو ميلا
      لكن مشكلة التاريخ لا يقيم ولا يقوم مثل الأسنان يعني كما يقول أحد خطباء منابر المساجد إن المسلمين مثل أسنان المشط بس ما يمشط ذقون إسبايكي. التاريخ يكتبه المنتصر ليس بالله كما كان العباسيين أو الامويين أو الدويلات التي ظهرت واندثرت أو إختفت. باسم الاسلام بينما أفعالهم لم تختلف عن أفعال بني عبس وبني قريش. يعني في مشكله في البني أو اولاد بني..؟ ومن بنى إسرائيل؟

    • زائر 1 | 10:09 م

      ضعف العقل البشرى

      ما اشرت اليه فى مقالك، هو أصل من أصول السلطة و السيطرة. عندما يفقد المنطق فإن الطامع فى القوة و السيطرة على البشر، يثير مشكلة طائفيه لا تمس بالواقع بشيء، للحصول على موقع و مركز لنشر سيطرته. الموضوع يتكرر فى كل زمان و مكان تحت الفارق المذهبى، الدينى، القومى، اللون، الأصل و كثير من هذه المسائل الغير قابلة للقياس بأية وسيلة. العجيب، غباء البشر الذين يقعون فى نفس المطب مرة بعد أخرى و لا يتعظون.

    • زائر 7 زائر 1 | 4:37 ص

      عفوا عزيزي

      ولكن كما اسلفت (غباء البشر الذين يقعون فى نفس المطب مرة بعد أخرى و لا يتعظون) هذا ليس غباء من البشر انما الخوف هو من يحركهم ليصبحوا طائفيين مع الاخر فعندما يتخيل لك بانك ستخسر الامان الذي انت به من جميع النواحي فسوف تستعمل هذه الاليه لاعتقادك بانها الوسيلة الانجع والمتاحه للمحافظه على امنك ومكتسباتك .

اقرأ ايضاً