المتابع لمسلسل أحداث تشرنوبل يدرك ما رافقها من إفرازات كارثية على مستوى الأضرار التي خلفته على الواقع الاجتماعي. وعلى الرغم من أن مسئولية ما نتج من أضرار مضاعفة تتحمله حصراً القيادة السياسية الماسكة بزمام القرار في تلك المرحلة والتي كان بوسعها تغيير مجرى الأحداث والنتائج، إلا أنه ينبغي أن لا نتجاهل العوامل الأخرى المسئولة أيضاً في حصيلة ما جرى تبيانه من أضرار، وأن ذلك نتيجة رئيسة لتعاطيها السلبي في إدارة عملية ملامستها لواقع الاحداث.
ويشكل الإعلام عنصراً رئيساً في عملية إدارة أحداث تشرنوبل ومارس دوره السلبي في ملامسة واقع الكارثة والتسبب في مضاعفة حجم الأضرار، حيث أن الإعلام بشتى تلاوينه وانتمائه كان إعلاماً منحازاً ومسيّساً وسلبياً، ولم يكن مهنياً في معالجته للأحداث، حيث اتخذ نهج التضليل وذر الرماد في العيون وحجب الحقيقة عن المجتمع، ومن جانب آخر اتخذ نهج المبالغة وبث الأخبار الكاذبة والمغلوطة وغير المنطقية في بعض مفاصلها، بيد أن كلا النهجين كانت تسيّرهما الايديولوجية السياسية والمصالح القطبية، وذلك جزء رئيس من استراتيجية الحرب الباردة التي كانت تحكم العلاقات الدولية في تلك المرحلة. وضاعف ذلك النهج الإعلامي العقيم في مختلف اتجاهاته من حجم المأساة والأضرار الاجتماعية.
وفي الواقع الذي شهدناه كان الإعلام الرسمي في الاتحاد السوفياتي السابق يبث الأنباء غير الصحيحة والمفبركة والكاذبة أيضاً، والتي لا تعبّر عن الواقع الملموس ولا تلامس الحقائق الدقيقة لمجريات الأحداث. ومن الدلالات على ذلك، تابعت مقابلة متلفزة مع عدد من الطلبة الأجانب نقلت من محطة القطار في موسكو حيث توجه عددٌ كبيرٌ منهم الذين فضّلوا مغادرة كييف لحماية أنفسهم من تأثير الإشعاعات، وكان من بينهم جاري في السكن الجامعي وزميلي في الدراسة شيخ محمدوه، من مالي، حيث عبّر عن رأيه بقوله «أن الأمور طبيعية وليست هناك دلائل على تلوث إشعاعي في مدينة كييف». وعند عودته سألته: لماذا هذا الكذب؟ فقال: كنت مضطراً لأنني سافرت بدون «فيزا»، وإذا تحدّثت بغير ذلك سوف أحرم من الامتحانات النهائية للتخرج!
وتسبب ذلك في جهل المجتمع بحقيقة الكارثة وأبعادها الخطيرة على الصحة العامة للمجتمع، ما جعل السكان يتوجهون في مجموعات كبيرة إلى شواطئ الأنهر والبحيرات والغابات للراحة من تعب النهار، ويستلقون تحت الشمس وكأن شيئاً لم يحدث. كما أن الطاقم الطبي الذي أشرف على معالجة فرقة الدفاع المدني لم يكن يدري بأنه يتعامل مع أجسام مشبّعة بالإشعاعات النووية، وتسبّب حجب المعلومات في مضاعفة الأضرار وموت الكثير من الأبرياء.
كما أن الإعلام الخارجي هو الآخر مارس دوراً سلبياً في بثه للمعلومات الكاذبة عن آثار الكارثة على السكان في مدينة كييف، حيث بثت محطات التلفزة الأوروبية مناظر لما جرى خلال الحرب العالمية الثانية من دمار للمباني والجثث ملقاة في الشوارع، وقادتني الصدفة للدخول في مناظرة مع الإعلامي الذي بثّ تلك المعلومات عبر شبكة «س.ان.ان» في حوار حول «أثر الإعلام على الأمن الاجتماعي»، مع ممثل من شبكة الإعلام الألماني الذي جرى تنظيمه في سياق برنامج مؤتمر الطوارئ الذي نظم العام 1998 في دبي، وكان يدير حلقة الحوار العقيد السابق في الدفاع المدني في دبي علي السيّد، وقلت موجّهاً حديثي لممثل شبكة «س.ان.ان»: أنت تؤكد أنه لا يمكن أن يساهم الإعلام في التأثير السلبي على واقع الأمن الاجتماعي، وأشرت إلى التقرير الذي أشرف على إعداده وما يحتويه من معلومات مغلوطة وكاذبة والذي جرى بثه عبر شبكة «س.ان.ان»، وبينت ما تركه ذلك التقرير من أضرار فعلية على واقع أمن أسر الطلبة. وردّ قائلاً: «كنت مضطراً إلى بث هذا الشريط لأنني لم أتمكن من الحصول على معلومات عن الحادث ترضي إدارة المحطة»!
ترك ذلك التقرير آثاراً سلبيةً على نفسيات أهالي الطلبة، ما دفعهم إلى إرسال البرقيات المتشائمة، ولفت نظري برقية وصلت إلى صديقي سعيد من المغرب كتب فيها: «إذا كنت حياً أبلغنا فوراً». كانت عائلته تستعد لإقامة العزاء واستقبال المعزين، ودفع ذلك العديد من السفارات إلى اتخاذ إجراءات سريعة، حيث قامت سفارات تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) وبولندا وألمانيا الديمقراطية (سابقاً) وسفارات أخرى بإجلاء رعاياها من مدينة كييف، وأرسلت سفارات اليمن وسورية مراسليها لتسجيل مقابلات تلفزيونية مع رعاياها، بيد أن ذلك لم يؤد إلى النتيجة المطلوبة، حيث أدت وفاة أحد طلبة المغرب إلى إثارة زوبعة كبيرة، واستثمرها الإعلام الخارجي أشد استثمار. فعند مرور جثته بمطار باريس نشرت الصحف مقالاتٍ مثيرةً أثرت في نفوس الأهالي. والحقيقة أن كارثة تشرنوبل لم تكن السبب المباشر في وفاة الشاب المغربي، وهذا ما أكّده أخوه الذي كان موجوداً، والطبيبة المشرفة على علاجه التي أكدت بأنه مريض بـ «الأنيميا المنجلية»، ورفض العلاج واختفى في إحدى الشقق، وكنا نبحث عنه لإبعاده عن المدينة. وعندما ساءت صحته اتصلوا بنا وتوجّهنا على الفور بسيارة إسعاف بيد أن الوقت كان متأخّراً.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3940 - الخميس 20 يونيو 2013م الموافق 11 شعبان 1434هـ
تشرنوبل النووية الحدث المأساوي... ذكريات شاهد عيان (8)
بوركت وبورك عقلك وقلمك
متألق دائماً يا رجل العلم
تحياتي
الدكتور رياض الدباغ
شكرا على الاهتمام
شكرا على اهتمامكم بالموضوع وأود الاشارة الى أن اقتراحكم في مكانه بيد أن ما أشرتم اليه جرى تناوله في الحلقات السابقة كما أن الحلقات القادمة تعالج موقف الاعلام في فهمه لقضايا تشرنوبل وانعكاس أحداثها على مفاهيم بعض الاعلاميين في تناولهم لاحداث الكارثة
طلب متواضع
لو تفصل أكثر في الجانب الإعلامي للكارثة تضفي على المقالات دقة أكثر حتى يعلم القارئ أن الكارثة وقعت مرتين