العدد 3937 - الإثنين 17 يونيو 2013م الموافق 08 شعبان 1434هـ

رحلة لاجئ

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

السِيَر من أكثر الكتب رواجاً، قديماً وحديثاً، لأن فيها قصصاً وعِبَراً وتجارب، كما نبحث فيها عن ذواتنا وحكاياتنا... ومن آخر هذه الكتب «وطن من كلمات»، بعنوانه الفرعي «رحلة لاجئ من المخيم إلى الصفحة الأولى»، للكاتب العربي الفلسطيني عبدالباري عطوان.

الكتاب رحلةٌ من العذاب والكفاح والمعاناة، حيث وُلد في المخيّم عام 1950، وشقّ طريقه في عالم الفقر والفكر والسياسة والإعلام، وقاتل من أجل لقمة العيش، وحارب التمييز والقهر. حتى وهو في ذلك المخيم البائس، حيث كان سقف البيت مصنوعاً من الأغصان والقضبان الخشبية، كان ينظر إليه رمزاً للكبرياء وصرحاً للكرامة وعزة النفس.

أحبّ صبايا المخيم وكتب شعر الغزل في إحداهن، ولما صدته هجر كتابة الشعر إلى الأبد. وأُعجِب بأحاديث الشباب عن البطولة والفداء، وكان نحيل الجسد، يعاني من فقر دم مزمن بسبب سوء التغذية بالمخيمات. قصته هي قصة آلاف العوائل الفلسطينية التي هُجّرت ونُكبت في وطنها، حيث لجأ من مدينته اشدود إلى قطاع غزة، لتتلقفه حياة المخيمات. وكان الخامس من بين عشرة أبناء، وكان الجميع يعيش في خيمةٍ كبيرة مع ثلاث عمات وجدّين وعمّين.

في المخيّم كانوا يحصلون على حصص صغيرة ومتساوية من الطعام، وثياب مستعملة كانت توفّرها «الأونروا»، تسلمهم سنوياً بطانية ملفوفاً فيها كمية الملابس. ولم يكن غربياً أن تجد رجلا عجوزاً يرتدي معطفاً نسائياً ضيق الخصر، أو فتى مراهقاً يمشي بصعوبة في بنطال نسائي ضيق. كان منظراً يبعث على الاحساس بالذل والمهانة.

في مدارس «الأونروا» بدأ دراسته الأولى، حيث كان يذهب بحذاء ضيّق ورثه من أخيه. أما أباه فقد ورث منه قرحة المعدة وعلامات التقطيب في جبهته. هذا الأب الذي خسر كل شيء في النكبة، وشى به مخبرٌ مصري في غزة للسلطات المصرية بدعوى امتلاكه مسدساً، ليسجن ويتعرض إلى تعذيب شديد، وخرج من هذه التجربة وهو يسير منحنياً من الآلام، مبتعداً عن الناس، وشديد الاحساس بالمرارة، لتلازمه الكوابيس حتى نهاية حياته. إنه السجن، أبشع جريمةٍ اقترفها الإنسان بحق الإنسان... وهو يحتضر أسرّ لزوجته: «هذا الولد من بين أخوته سيقوم بشيء مختلف».

في أحد الأيام دخل المدير يحمل عصا، وسأله: كيف تعرف الرئيس عبدالناصر؟ فأجابه مذهولاً: من الراديو، فأخرج مغلفاً كبيراً عليه طابع بريد وسلّمه إياه. كانت رسالةً من جمال، يشكره على رسالته مع صورٍ وكتبٍ أهداها له. كانت رسالةً عاديةً تحمل توقيع الرئيس يرسلها مكتبه لآلاف المعجبين، لكنه كانت أجمل رسالة تلقاها في حياته.

في الخمسينيات، وفي أعقاب النكبة، سافر الكثير من الفلسطينيين إلى الخليج طلباً للعمل ولإعالة أسرهم، وذهب أخوه الأكبر للسعودية. وفكّر عمّه بإرساله للأردن لتعليمه و»تسمين عقله»، وحين سأله عمّا يريد أن يعمل، أجابه: صحافي. فردّ عليه: «لا يوجد مال في هذه المهنة. عليك أن تفكّر بأمّك». وهكذا سافر إلى عمّان، مزوّداً بحذاءٍ وحيدٍ أدخل عمه في كعبه كل ثروته. كانت 30 جنيهاً مصرياً، هي حصيلة شقائه لسنوات.

في عمّان استقبله بعض أقاربه، وكان السكن بالفندق فوق طاقته، فاستأجر نُزُلاً شعبياً مشتركاً مع بعض العمال، يتقاسمون السرير الواحد في نوباتٍ موزّعةٍ بين الليل والنهار. وكان سريره على حافة السطح، وكان يخشى السقوط فيربط كاحليه بالسرير.

في عمّان، عمل في مصنع لتعليب البندورة، يحمل صناديقها إلى الشاحنة، حتى امتلأت يداه بالقروح. وظلّ يعمل على أمل أن يوفّر لعائلته بعض المال، متجنّباًَ لذلك التدخين والخروج مع أصحابه إلى المطاعم. وفي عمّان بدأت عادته مع القراءة، فقرأ ديستوفيسكي وشكسبير وهوغو وبيكيت، وكانت القراءة وسيلةً للهرب من الفقر والشعور بالإحباط.

بعد عامٍ، قرر انهاء عمله بمصنع البندورة، لأن شيئاً من وضعه لم يتحسن، فساعده ابن عمه للتعرف على صديق، علّمه السياقة التي لم يكن يحسنها ولا يملك مالاً لتعلمها. رخصة السياقة مهّدت له الطريق للعمل كسائق «تراكتور» في البلدية، لرش المبيدات الحشرية والصراصير والبعوض. وأشفق عليه مسئوله ذات يوم بعدما رآى أنفه يسيل بفعل المبيدات، وحوله للعمل سائقاً لسيارة جمع القمامة. حيث كانت الرائحة لا تطاق في صيف الأردن. وكان سعيدا من وراء مقود الشاحنة وهو يجتاز مناطق عمّان، وهو يحلم بمستقبل آخر يخطط له في خياله. هذا العمل أتاح له تغيير سكنه والانتقال إلى غرفة في حي فقير مزدحم، لدى عائلة مكونة من أرملةٍ وست فتيات عازبات عاملنه مثل الأمير، أخذن يعتنين بغسل ملابسه وإطعامه حتى لم يعد قادراً على الحركة!

بعد عامين انتقل إلى مصر لإكمال الدراسة الجامعية (1969)، وهي انتقالة من جوار شعبٍ دائم النقّ والشكوى، من جامع القمامة إلى أصحاب الملايين... إلى شعبٍ يطلق النكات من الفجر إلى الغسق، بغض النظر عن ظروفهم. وفي الاسكندرية التحق بمدرسة «العروة الوثقى» بوصفها لاجئاً. ثم أتيحت له فرصة الالتحاق بجامعة القاهرة لدراسة الآداب، تخصص الصحافة التي كان يحلم بها.

اللاجيء المشرّد من غزّة إلى عمّان فالقاهرة، فليبيا والسعودية، لينتهي رئيساً لتحرير واحدةٍ من أهم الصحف العربية الصادرة في لندن. أنها قصة كفاح ابن المخيم الذي غادره بحذاءٍ محشوٍ بعشرين جنيهاً، فأصبح يظهر بشكل شبه يومي على الفضائيات العربية والأجنبية لتسمع صوته الملايين.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3937 - الإثنين 17 يونيو 2013م الموافق 08 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 19 | 3:59 م

      لتكن لنا اهداف واضحة

      مثله مثل العديد من الاشخاص الموجودين في البحرين والعديد من البلدان التي تعاني من الظلم والجور،،
      توفرت له الفرص فلم يتوانى في تحقيق ما كان يطمح اليه، لتكن ثقتنا بالله اقوى، ولتكن اهدافنا واضحة
      وفقت في اختيارك استاذ قاسم وهكذا انت دائما

    • زائر 18 | 9:44 ص

      زنجبار وزجباريات من الحبشه وزنوج بعد الى الزنج قد جلبوا

      تقارير كشفت وأوضحت وبينت الكثير منها فجوه الكفايات- تقرير شركة الن الاستراليه وهذا يعني إن التعليم في البحرين في قمة تألقه منتجاته فاقة المستوى العالمي. أما تقرير بسيوني فقد كشف عن وجود هفوات مو فجوات بس في القانون والتشريع والشرعه التي مصدر الدستور منها كما أن القضاء والقاضي كيف يقضي وسيقضى عليه. وهذا صحيح على الحاكم كيف يحكم وهناك من سيحاسبه ويحبسه في قبره؟ أما عن الفتنة التي هي أشد من القتل فحدث أو حرض وخذ لك دينار ما ينعرف إذا كانت تجارة البشر رائجه من زمن المستشار من زنجبار ومناطق أخر لرعي

    • زائر 15 | 8:34 ص

      لا انسانيه من غير المعاناة

      لا يسمو الانسان اذا كان مرفها فان الله يبلي عباده بالطلم والفقر والمعانات لكي ينضج ويتعلم ويسمو

    • زائر 13 | 8:14 ص

      ابو صادق الشايب

      لو أنا كنت في مثل قصته لكانت إنتهت مع الأرملة مع بناتها أكثر الظن أفضل مقالات واجدتها لك يا قاسم حسين فهي لا تخرج إلا من القلب

    • زائر 14 | 8:14 ص

      ابو صادق الشايب

      لو أنا كنت في مثل قصته لكانت إنتهت مع الأرملة مع بناتها أكثر الظن أفضل مقالات واجدتها لك يا قاسم حسين فهي لا تخرج إلا من القلب

    • زائر 12 | 7:38 ص

      اثبت على راي عشرين لو ثلاثين

      أسمعه بس ما يختلف عن غيره .. عموما سؤال من يدعم صحيفة القدس العربي وما هي نسبة توزيعها

    • زائر 17 زائر 12 | 9:19 ص

      سؤال مال واحد نايم

      اكيد امريكا واسرائيل والهصوينية العالمية والاف بي آي.

    • زائر 8 | 1:09 ص

      قصة كفاح

      الحياه فيها عبر كثيره ، شكرا لك استاذي عرفتنا على قصة الصحفي الكبير عبد الباري عطوان.

    • زائر 7 | 12:53 ص

      شكرًا لك

      كل مقالاتك رائعه ومميزة يا سيد ، نتمنى لك التوفيق .

    • زائر 5 | 12:32 ص

      شكرا

      شكرا على المقال .. عرفتنا بشئ لم نكن نعرفة عن الأستاذ عبد البارئ عطوان. المغزى من المقال أكبر...

    • زائر 4 | 12:31 ص

      لاجئ من المخيم

      يا سيد اسم المدينه العربي هو أسدود و فيها ميناء مشهور باسمها، لكن أشدود هذا الاسم العبري الذي سمتها به اسرائيل.

    • زائر 2 | 12:16 ص

      ملخص

      الأستاذ السيد قاسم.. لقد أعطيتنا ملخص كتاب كبير.. شكراً لك..

    • زائر 1 | 9:59 م

      للتنبيه ياسيد

      ذكرت في فقرة 30 جنيها
      (وهكذا سافر إلى عمّان، مزوّداً بحذاءٍ وحيدٍ أدخل عمه في كعبه كل ثروته. كانت 30 جنيهاً مصرياً، هي حصيلة شقائه لسنوات.)
      وفي فقرة اخرى 20 جنيها
      (أنها قصة كفاح ابن المخيم الذي غادره بحذاءٍ محشوٍ بعشرين جنيهاً،)

اقرأ ايضاً