أي مهندس في هذا العصر لا يمكن أن يتعامل في تخطيطه لمدينة بعيداً من البشر وحواسهم... ذائقتهم... أمزجتهم وثقافتهم. المدن ليست شوارع وناطحات سحاب ومدناً إسكانية وحدائق ومتنزهات وشبكة صرف صحي ومترو للأنفاق. تخيلوا تلك المدن وقد خلت من البشر. لا قيمة تذكر لها. تظل باردة وموحشة وقبيحة، وسرعان ما تتآكل وتنهار. تسكنها الأشباح، إذا كان للأشباح أي وجود يمكن أن يُعوّل عليه.
***
حواس البشر، من رؤية وشم ولمس وسمع وتذوّق، لا يتم استبعادها في الدول التي للإنسان قيمة عندها، في الدول التي لديها حواس، في تخطيط أي مدينة أو جزء منها، لا يستبعدها من المعنيين إلا المصاب في حواسه تلك. تاجر تخطيط شَرِه وليس إنساناً مخططاً تتحرك فيه تلك الحواس. المدينة لأكثر من مرة: ليست كتل الصُلب والأسمنت والاوتوسترادات؛ ليست التنافس في أعرض وأطول هيكل مبنى؛ ليست هذا البذخ على الشكل؛ تجاهلاً وهروباً ومواراة لن يمنح كل ذلك قيمته ومعناه وجدوى حضوره وارتكازه في الصميم من قيمة الإنسان.
***
المدن التي تقوم وتمتد وتتطاول في جغرافيات الطفرة المالية، ذات الاقتصاد الريعي، تشهر خطورتها ولا تحتاج إلى تعمّق كي تكتشف تلك الخطورة؛ وخصوصاً إذا كانت لا تعاني من انفجار سكّاني مع مساحات شاسعة من الأرض. ذلك التمدّد العمودي والأفقي أحياناً في مناطق عزل غير معلنة، هي بمثابة دعوة مفتوحة للهجرة دون ضوابط، ومع أية مباغتة أو أزمة مالية تبدأ الندوب تظهر على السطح، وهي ندوب ستتحول مع مرور الوقت من دون خطط بعيدة المدى إلى جروح تنتشر في هياكلها؛ لتصبح تلك الطفرة إلى شبه شلل، والوفرة إلى عجز؛ عدا أن الامتداد ذاك يترك صورته وأثره المؤذي في كل مفصل من مفاصل الحياة في تلك المدن. لا اعتبار للحواس في مجملها. لا اعتبار لإنسانها، والذين استدرجتْهم تلك المدن بإجراءات التسهيلات والهجرات، يجدون أنفسهم في طوابير طويلة في المطارات هرباً من فخاخ التزامات ربطوا أنفسهم بها وباتوا عاجزين عن وفائها.
***
مشهد مواقف السيارات في أحد المطارات الخليجية التي لهثت بشكل غير مدروس وراء ذلك التمدّد فصُفِعَت بالفقاعة العقارية؛ بعد أن صفَعَت أكبر اقتصاد في العالم في ما عرف بالرهن العقاري في العام 2008، وما تبعه من انهيارات قطاعات متنوعة في بدء مرحلة جديدة من إفلاس مؤسسات تتجاوز موازنة إحداها موازنات عشرات الدول، ومرحلة أخطر شهدناها خلال عامين بدخول العالم إلى مرحلة إفلاس الدول: اليونان نموذجاً، وتتابع قطع الدينامو في بعض دول الاتحاد الأوروبي.
***
المدن تضجّ بالروح والحركة ببشرها. بشرها الذين وضعتها بالاعتبار في كل تفاصيلها، من مرحلة التصور والمخطط ورصد الموازنات؛ وصولاً إلى تحققها على الأرض. البشر في الداخل أولاً بثقافاتهم وتنوعهم وتعددهم والحواس التي يملكون ويستشعرون، وكذلك البشر الذين يقصدونها. تقدم لهم ثقافة وأمزجة وحواس وطرق تفكير بشر المكان. يتم التعرف على البشر بالمدن التي يسكنون ويقيمون. بتفاصيل تلك المدن. المدن التي تهمل ذاكرة المكان والناس تتعمّد عزلهم وفصلهم عن تلك الذاكرة. وشعب بلا ذاكرة لا وجود له.
***
المدن التي بلا ذاكرة، عمدتْ إلى إنسانها فسلخته عن تأسيسه وتكوينه وثقافته وكل ما يرتبط بتلك المنظومة التي لا يمكن لأي شعب أن يتعرف على حقيقة شعب أو مجموع بشري من دونها وبعيداً منها. فوق هذا وذاك، ثمة مدن نشأت لتخنق الإنسان وتورده المهالك، حين تضع الاعتبار للصناعات والاستثمار وحركة الأموال والربح السريع؛ ولو كان في ذلك حتف الإنسان. لاحظوا مدناً تتاخم مصانعها مدناً وقرى بكل ما تنفثه مداخنها من غازات سامة، وبكل إحصاءات الذين يسقطون جرّاء الأمراض الخبيثة، واستعداد وحضور تبرير وتزوير أيضاً في رد تلك الأورام ربما إلى كائنات فضائية، وفي صفاقة أحياناً وانعدام خجل، يتم نفي وجود تلك الأورام أساساً، وإذا تم تأكيدها، يتم إثبات براءة تلك المصانع ومداخنها التي لن تتوقف عن بث سمومها وعلى مدار الساعة!
***
حتى وقت ليس بعيداً، كانت زيارة مسئولين من العالم الثالث إلى المدن الكبرى في العالم المتقدم للاطلاع على الوصفات العجيبة التي تجعل المدن سعيدة بإنسانها، مصوناً في كل ما يمتّ إلى الحقوق بصلة. كان النظر واعتماد مراعاة صون وحماية البيئة من حوله أول درس وشرط إقامة تلك المدن؛ حتى درجة الضوضاء في الخارج تمت مراعاتها في تصميم المشروعات الكبرى، وتتولى تفاصيل ذلك الجهات المنوط بها منح تراخيص ناطحات السحاب أو ما دونها. الضجيج تلوث هو الآخر يمس البيئة ويطول الإنسان أيضاً.
اليوم مدن بأسرها تكشف اهتراءها سيول عابرة كل عقد من الزمن. تُشل مدن بأسرها، ويتساقط الضحايا جرّاء فساد مستشرٍ راعى ويراعي أرصدته في المصارف، ولا يهم بعد ذلك كم سيسقط من البشر جرّاء ذلك الجشع. حلم مدن عربية كبرى اليوم أن تتوافر لها بنى تحتية أقلها بنى مصارف المياه وشبكات الصرف الصحي ضمن اشتراطاتها الهندسية والمعايير الدولية المتعارف عليها.
الفساد والجشع واستبعاد الإنسان من الهندسة المُكلفة يعيدنا إلى عصر الكهوف والعيش في العراء والتعلق بشجرة، وهي مشاهد لا تُنسى وقريباً منا في مدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية، وبعيداً منا في مصر وغيرها من بلاد العُرْب أوطاني!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3936 - الأحد 16 يونيو 2013م الموافق 07 شعبان 1434هـ
الامام علي (ع)
كان يحس بالغربه من البشر والحجر ويذهب بعيدا الى حضن وتحت نخله من نخيل مكه ويستريح عليه السلام ويفكر في الله فقط لان هذه الدنيا غربه للروح والآخره هو بيتنا الحقيقي ولا نحس فيه بالغربه
يقول المثل الي ماله اول ماله تالي
شقائنا من تقليد الاعمى من لباسنا الى اكلنا وطريقة حياتنا لايوجد هناك اصاله وتاريخ بقي للانسان في غربة القلوب اين منفس عندما يريد الانسان البحث اوشم الماضي
سبجانك يارب
نعم ان قيمة الامكنة بالبشر وارواحها الشفافه ولا حياة من غير بشر لها حس وسمو عالي ولكن اين من يقدر قيمة الانسان فى هدا العالم كل شىء له قيمه الا الانسان فى هدا الزمان اصبح بثمن بخس والله المستعان . خاتون المشخص