في حديثنا السابق، أشرنا إلى أن المتغيرات الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمها اندلاع الحرب الباردة، أسعفت معارك الاستقلال الوطني العربية، وأدت إلى تكللها بالنصر. لكن الظروف ذاتها، وقفت حجر عثرة أمام تحقيق حلم وحدة الأمة العربية. وأوضحنا أن المعضلات التي واجهها مشروع الوحدة لا تكمن فقط في مواجهته مواقف دولية طاردة، أطلقنا عليها مجازاً بالعوامل الموضوعية، ولكن أيضاً لعوامل ذاتية، تمثلت في عجز الأحزاب والمنظمات والهيئات السياسية التي رفعت شعار الوحدة، عن صياغة استراتيجية عملية لتحقيقها.
تمثلت العوامل الذاتية التي أدت إلى فشل المشروع الوحدوي، في سيادة ثقافة الاستبداد، وهي ثقافة ألقت بثقلها على الواقع العربي بأسره، وشملت القمم والسفوح، ولم تستثن أحداً. وواقع الحال، أن هناك صعوبةً في فصل عجز الأحزاب والهيئات والمنظمات السياسية في صياغة استراتيجية واقعية لتحقيق الوحدة، وسيادة ثقافة الاستبداد، فكلتاهما وجه لعملة واحدة.
فالتشكيلات الاجتماعية، التي سادت الوطن العربي، هي نتيجة تسويات تاريخية، بين التشكيلات البطريركية القديمة، وبين الهجمة الكولونيالية التي برز دورها بوضوح في المشرق العربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتعزز بقوة، بعد نتائج الحرب العالمية الأولى. وكان من نتائجها، تعطل النمو الاقتصادي في مراكز اليقظة العربية، وبروز وجاهات اجتماعية غير منتجة فيها، غدت قوة وسيطة بين العالم التجاري المحلي، والبنية التحتية، بما يعني أنها أصبحت تابعة للمشروع الخارجي، ولم تعد قوة مستقلة ومبدعة.
في هذه المناخات، نشأت وتطورت حركة التحرر الوطني، في المشرق العربي، كجزء من حركة التحرر الوطني العالمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. ولأن هذه الحركة، اكتفت بمطالب الاستقلال، ولم تحمل برامج سياسية واقتصادية واجتماعية لمرحلة ما بعد إنجاز الاستقلال، فإنها لم تشكل تهديداً حقيقياً لمصالح القوى العظمى السائدة آنذاك، بل شكلت عاملاً مسرعاً لإحكام القوى الدولية الصاعدة قبضتها، والهيمنة على العالم، والتفرد بصناعة القرار الأممي، وعلى أساس هذه القاعدة نشأ النظام العربي الرسمي الذي تأسس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
والنتيجة المنطقية، لهذا التطور التاريخي، أن الطبقة المتوسطة التي يفترض فيها، أن تكون كما في كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، مستقلةً بذاتها، وصانعةً للفكر، ورائدةً للتنوير والتمدين، أصبحت كسيحةً وعاجزة، عن حمل راية الوحدة العربية، وبناء الدولة الحديثة، ولذلك اتسمت مواقفها بالمراوحة والعجز، وتغليب مصالحها الضيقة الخاصة على مصالح الأمة.
ولأن التحولات التاريخية، التي شهدتها الأمة العربية في مشرقها، بعد معارك الاستقلال، هي تحولات ناقصة، بفعل العوامل التي جرى تأشيرها، فإن النتيجة الموضوعية لذلك هي تغييب هذه التحولات للمشروع التنموي والتطور الاجتماعي، وضعف التوجه القومي. وهكذا وجدت الأمة ذاتها، ضحية انسداد تاريخي، عطّل من عملية التحول الديمقراطي وحال دون قيام الدولة المدنية. وصودر الرأي الآخر، وجرّم العمل السياسي، وحيل بين تشكيل مؤسسات المجتمع المدني.
لم يتبق في الساحة، من بإمكانه قيادة الدولة والمجتمع في الوطن العربي، سوى الشبان اليافعين بالمؤسسة العسكرية، الذين واجهوا مرارات الهزائم والعجز والنكبة. فكان أن شهد المشرق العربي، منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، انقلابات عسكرية عدة، كان الأكثر كاريكاتورية بينها، الانقلابات التي شهدتها سورية، لتلحق بها بعد فترة وجيزة، بلدان عربية أخرى.
ورغم أن هذه المرحلة، لم تكن سلبية، بشكل مطلق، حيث تحققت جملة من المشاريع التنموية، وتعمّم التعليم الإجباري، للمرحلة الابتدائية، والمجاني للمراحل الأعلى، ووفرت المصحات والمشافي، والكهرباء والسكن، لكن ذلك تزامن مع تصاعد ظواهر الاستبداد، وتغوّل سياسة التفرد والإقصاء. وقد مثلت نكسة حزيران 1967، نهاية هذه المرحلة.
في ما يتعلق بمشروع الوحدة، جرت محاولات انفعالية لتحقيق وحدات بين قطرين أو أكثر، لم يقدّر لها النجاح. وكانت التجربة الفريدة في هذا السياق، هي الوحدة المصرية السورية، التي انتكست قبل أقل من أربع سنوات على تدشينها. وفي ما عدا هذه التجربة، طغى المثال على الواقع، واكتفي بالتنظير بدلاً من الممارسة، وبقي الشعار مؤجلاً، حتى إشعار آخر.
المقاربة إذاً، تقول، إن مشروع الاستقلال الوطني، لم يكن التحول الديمقراطي شرطاً لتحققه، لأنه عمل جمعي مناهض للاحتلال الخارجي، مع أن هناك جدلاً يقول إن استكمال الاستقلال هو رهن بما يستتبع من تحولات لاحقة. أما الوحدة العربية، فهي عمل شعبي، شرط تحققه، التحول الديمقراطي، وتراجع سياسة الاستئثار بالسلطة، فالوحدة هي في النتيجة تعبير عن مصلحة الأغلبية، وليست لقوى محددة بذاتها.
وهكذا فإن هيمنة الأنظمة الشمولية، هي من المعوقات الرئيسة لتحقيق الوحدة العربية. ولاشك في أن ثقافة هذه الأنظمة وجدت بيئة مناسبة، في المجتمع العربي، المتسم بركاكة تشكيلاته، فأصبحت هذه الثقافة جاذبة لنخبه السياسية والفكرية والثقافية. ترفع المعارضات السياسية، بمختلف توجهاتها، شعار التحول الديمقراطي وتداول السلطة، ولكن زعاماتها تظل ممسكة برئاسة الحزب أو الهيئة أو الاتحاد لا فرق، حتى ينتزع الرحمن الرحيم أمانته.
ولا يستثنى في هذا السياق، قادة الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية، ولا رؤساء مراكز البحوث العلمية، فكلهم يقدسون ثقافة الاستبداد، ويمارسونها بجَلَد ومثابرة، حتى النَفَس الأخير. والنتيجة هي تكريس مقولة ليس في الإمكان أبدع مما كان، وتغييب المبادرة والخلق والإبداع، ولتبقى آليات التجزئة ماثلة في القمة والسفوح.
جدلية الاستقلال الوطني والوحدة، تضع التنمية بكل تشعباتها شرطاً لازماً لاستكمال الاستقلال الوطني. أما الوحدة فإن تحقيقها يقتضي في أبسط بديهياته تصليب البنيات الاجتماعية العربية، والانتقال إلى الدولة المدنية، وأن يكون للشعب العربي فسحة في تقرير مصائره وأقداره.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3933 - الخميس 13 يونيو 2013م الموافق 04 شعبان 1434هـ