عندما أشار الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى «تحويل الشوارع إلى فنادق» في خطابه الافتتاحي للقمة العربية في الأسبوع الماضي، كانت الإشارة واضحة لكل عاقل، انه يعني ما يحدث في لبنان، والإشارة فيها من المرارة ثقل واضح، كما تحمل من الرجاء أمل بيّن، إذ أصبح الملف اللبناني هو الأكثر مدعاة للحيرة والتساؤل في الأوساط السياسية العربية، عندما يتحول الصراع إلى تهديد للنسيج الداخلي لبلد عربي يهدد بالانتشار، إلا انه ملف مركزي في نجاح المراهنة على نتائج القمة، على رغم ما يبدو على عكس ذلك.
الملف اللبناني يختلف عن الملفات الكبرى التي عرضت على مؤتمر القمة أو التي تؤرق العرب. الملف اللبناني هو ملف عربي بامتياز، فحين نرى أن الملف الفلسطيني يشترك فيه سلبا أو إيجابا طرف أساسي آخر هو «إسرائيل»، ونلحظ أن الملف العراقي يشترك فيه آخرون على رأسهم الولايات المتحدة، يبقى الملف اللبناني عربيا، حتى لو كانت إيران لها طرفٌ فيه، فهي طرف لا يستطيع أن يكون فاعلا من دون القنوات العربية. من هنا تظهر مرارة الخطاب الملكي السعودي (الشوارع إلى فنادق)، وهي عبارة تحمل من الدلالات ما لا يسر، مرسلة إلى الأطراف اللبنانية والعربية التي يخصها الأمر والمُشاركة في استحكام الأزمة.
الشأن العربي الكبير والمهم هو فلسطين تستخدمه بعض الأطراف اللبنانية ذريعةً لها وبشكل متعاكس، فبعضها يتحدث عن فلسطين من اجل التحرير، وبعضها يتحدث عن فلسطين لمنع التوطين، وبين التحرير والتوطين، وهما عالمان في الغالب وهميان يراد بهما ما لا يعلن عنه. تضيع مصلحة المواطن اللبناني الذي يجاهد للبقاء في وطنه ومتابعة أكل عيشه. وقضية أخرى تطرح للاستقطاب والاستقطاب المضاد في لبنان، هي العداء لأميركا، يتناوله فريق لبناني للعن النفوذ الأميركي، وفريق آخر يرى في هذا النفوذ المُخلص، ولكن مرة أخرى تضيع في هذا الخضم مصلحة المواطن اللبناني.
لبنان وملفه المعقد اخذ ويأخذ من الطاقة العربية السياسية جهدا كان يمكن أن يوظف ويستثمر في الملفين العالقين منذ زمن، الملف القديم فلسطين، والملف الجديد العراق، ومع ذلك إن الأطراف اللبنانية تصر على أن تخلق من صراعها على الجانبي صراعا عربيا يستنزف الطاقات السياسية القليلة المتبقية للعرب.
يحضر لبنان برأسين في عدد من القمم العربية الأخيرة، وربما يذهب إلى الأمم المتحدة برأسين أيضا، وهو دلالة واضحة على الشق بين الأطراف اللبنانية. حتى الفلسطينيون على شدة خلافهم أو العراقيون على سخونة ساحتهم، لم يفعلوا ذلك بعد، ولبنان أمامه استحقاقات كبرى، كانت ولاتزال تزلزل العمل السياسي اللبناني،هي تاريخيا من اختيار رئيس الجمهورية، وأخيراً سلاح حزب الله الذي يؤرق أطرافاً لبنانيةً.
إذاً هناك احتمال من حيث لا يتوقع احد أن ينفجر الوضع اللبناني بين فئاته المتناقضة خلال الأشهر القليلة المقبلة بسبب هذين الملفين، وخصوصاً أن بعض قضاياه قد تناولتها القمة، وعلى رأسها تأكيد وجوب وحتمية وجود المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري وما تبعها من اغتيالات، وهو أمر كان ولايزال موقع خلاف مستحكمٍ.
هذا النص في بيان القمة بالتأكيد لن يرضي بعض الأطراف اللبنانية، وتعتبره وقوفا مع طرف ضد طرف في لبنان، وخصوصاً أن هناك تيارا عربيا ليس بالقليل يرى في حزب الله وربما أمثاله من القوى الشعبية الممانعة، خير وسيلة لمقاومة «إسرائيل»، التي لا يمكن هزيمتها في الوقت الحالي بالجيوش، كما لا يمكن إقناعها بحلول سياسية مرضية حتى اللحظة. فمدرسة حزب الله إذاً قد تكون السلاح الآخر الذي قد يلجأ إليه. إلا أن السؤال طبعاً هو: هل يمكن تكرار صيغة حزب الله في ارض عربية غير لبنان؟ أم هي صيغة لبنانية خاصة لا يمكن تَكرارها؟ وهل يمكن أن تُفعَّل هذه الصيغة بعد حرب الصيف الماضي؟ كل تلك أسئلة معلقة ومقلقة.
من الآن إلى سنة مقبلة عندما تُعقد القمة في دمشق، يكون قد جرت مياه كثيرة تحت جسر القضايا التي نوقشت في الرياض، إلا أن موقف دمشق من الملف اللبناني سيكون حاسما. بالتأكيد لن يكون متاحا عقد قمة في دمشق ونار حرب أهلية تصلى في جوارها، ذلك مثل صعوبة عقد القمة ونار الفتنة العراقية مشتعلة إلى أحجام متضخمة، كما يتوقع كثيرون. فالموقف السوري هنا موقف مركزي، في قضيتين على الأقل: العراق ولبنان، عدا طبعاً دوره الفلسطيني المعروف.
إما أن تسير دمشق نحو التوافق العربي والتهدئة اللذين ظهرا في قمة الرياض، ومكانها الاختباري هو لبنان، وإما أن تستمر دمشق في معسكر الممانعة وإن بإشكال أخرى.
طرف آخر في الممانعة غير عربي هو إيران، وفي الأشهر القليلة المقبلة، ربما قبل نهاية العام الجاري، ستتقرر نوع العلاقة بين إيران والغرب.
مجلة «فورن افيرز» - ذات النفوذ على شريحة من متخذي القرار الأميركي - تتحدث في العدد الحالي (مارس/ آذار، أبريل/ نيسان)، فتقول ما خلاصته: «إن الأفضل لواشنطن أن تبحث عن سياسة أخرى تجاه إيران، وتتخلى عن فكرة لازمتها منذ الانقلاب على الشاه محمد رضا بهلوي العام 1979 حتى ثلاث سنوات بعد احتلال العراق، وهي فكرة التخلص من النظام الإيراني عن بكرة أبيه، على أساس انه مناقض للمصالح الأميركية». وتدعو المجلة إلى النكوص عن تلك السياسة إلى مجموعة من السياسات التي تقود إلى تخفيف الحدة في المواجهة على قاعدة «صرف النظر عن تغير النظام نفسه». مثل هذا التوجه ليس غريبا عن الأوساط السياسية في واشنطن، إلا أن الرسائل القادمة من هناك تجاه إيران فيها البارد والساخن، واندلاع صراع في الخليج ليس بمستبعد حتى الآن.
إذا تبلورت في الأشهر القليلة المقبلة حزمة السياسات الايجابية تلك، فإن دمشق وبالتالي بيروت تستطيع أن تتنفس براحة اكبر، وخصوصاً إذا حصلت الأولى على ضمانات لا تمس عصب نظامها في موضوع المحكمة الدولية، أما إذا سخنت الساحة بين إيران والولايات المتحدة، فإن ساحة لبنان أول ما تتفجر.
إنها سنة - أو اقل قليلا - حاسمة في تاريخ العرب الحديث، إما أن تتحول الشوارع إلى ساحات حياة وازدهار، وإما إلى خنادق، فترة تحولها المؤقت إلى فنادق قد أزف بالأفول، وراقبوا الوضع في لبنان انه مختبر كثير من المؤشرات في منطقة الشرق الأوسط المنكوبة.?
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1670 - الإثنين 02 أبريل 2007م الموافق 14 ربيع الاول 1428هـ