خسر «مجلس الحكم الانتقالي» مضافةً إليه الحكومة العراقية المعينة فرصة سياسية للمصالحة مع المحيط الإقليمي برفضه حضور اجتماعات «قمة دول الجوار» في دمشق. فالمقاطعة هي نوع من المكابرة التي تغلب السلبية على ما عداها من اعتبارات مصلحية أمنية واقتصادية واستراتيجية. فالانكفاء عن المحيط الجغرافي - التاريخي لعوامل خاصة لها صلة بالضغوط الأميركية وأوامر الاحتلال جعل من مواقف الحكومة ووزير خارجيتها مجرد شعارات تتلطى وراء «السيادة» و«الاستقلال» ورفض «الوصاية» وعدم «التدخل» في شئون العراق.
أسلوب المقاطعة هو سلوك سيئ عموماً، ويزداد سوءاً حين تتحول «المقاطعة» إلى سياسة عامة وتحديداً مع دول مجاورة لها مصلحة في استقرار العراق واستقلاله وقيام حكومة وطنية شرعية ومنتخبة. فدول الجوار خائفة ليس من العراق وإنما من الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين وما نتج عنه من انقلاب في الموازين الإقليمية التي صبت في مجملها في إطار المصلحة الإسرائيلية واستراتيجية شارون الهجومية. ودول الجوار حين تداعت للاجتماع للمرة الرابعة في تسعة أشهر كان هدفها البحث في شئون المنطقة وهمومها المشتركة ومحاولة ابتكار أساليب تساعد على التخفيف من ثقل نتائج الاحتلال والتهديدات المعلنة والمبطنة ضد محيط العراق.
«مجلس الحكم الانتقالي» - وحكومته المعينة - يدرك هذا الأمر ويعرف أن الضغوط الأميركية على الدول المجاورة ازدادت بعد فوز قوات الاحتلال في معركتها العسكرية ضد نظام صدام السابق. فالمخاطر الناجمة عن تداعيات الموقف في العراق لا تقتصر على حدوده الجغرافية - السياسية بل أخذت تمتد محاولة ابتزاز دول الجوار وإجبارها على الخضوع أو الرضوخ لسياسات خطيرة تمس جوهر هوية المنطقة وسيادتها واستقرارها ومصالحها خدمة لحليف أهوج يحتل الأراضي الفلسطينية والعربية ويهدد بالمزيد من الحروب والاجتياحات.
كان على «مجلس الحكم الانتقالي» أن يختار بين الولاء لمصالح المنطقة ومصيرها واستقلالها ومستقبلها وبين الخضوع للمصالح الأميركية واستراتيجية الهجوم التي تقودها واشنطن مدعومة من تل أبيب وهي الطرف المستفيد من كل هذا الخراب الذي عمّ العراق وتريد نشره في بقاع المنطقة العربية والمحيط الإقليمي لبلاد الرافدين.
المشكلة معكوسة تماماً. فالخوف ليس من دول الجوار على العراق بل من الاحتلال الأميركي ومخاطره الواضحة والمكشوفة على المحيط الإقليمي. هذه المعادلة يبدو أنها غابت عن الحكومة العراقية ومال «مجلس الحكم الانتقالي» إلى تصديق الرواية المقلوبة وقبول الأكاذيب التي تدعي أن المقاومة العراقية ليست عراقية وأنها هي مجموعات مسلحة يتم تصديرها من الخارج.
كان على «مجلس الحكم الانتقالي» أن ينظر إلى «قمة دول الجوار» من زاوية تبادل المصالح وتوازنها. فالخوف ليس من جهة واحدة بل من جهتين ومخاطر الاحتلال الأميركي على استقرار المنطقة ومستقبلها أكبر بكثير من خطر العمليات المسلحة (المنظمة والعشوائية) على استقرار العراق ومستقبله. فما حصل ويحصل في العراق ليس أمراً مستغرباً إذا وضعنا مجرى الأحداث في سياق الفعل وردة الفعل. أما المستغرب فعلاً فهو تلك التهديدات التي تصدر تباعاً من هذا المسئول الأميركي أو ذاك أو من هذه الجهة الإسرائيلية أو تلك ضد دول المنطقة ومحيط العراق الإقليمي.
خيار المقاطعة كان سيئاً ويدل على نوع من المكابرة تشير إلى وجود تيار انعزالي انطوائي لا يريد الانفتاح على الحياة ويرفض التعايش السلمي مع محيط إقليمي ممتد جغرافياً وبشرياً واقتصادياً. فدول الجوار تعتبر من أهم الأسواق العالمية وتأتي في المرتبة الخامسة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ودول جنوب شرق آسيا. فهذه الدول تضم قرابة 225 مليون نسمة ومساحتها الجغرافية تبلغ قرابة عشرة أضعاف مساحة دول الاتحاد الأوروبي، وتملك ثروات طبيعية (إضافة إلى الاحتياطات الهائلة من النفط والغاز) تغذي دول العالم إلى فترة طويلة. وفيها أيضاً طبقة وسطى واعدة اقتصادياً وتنموياً، كذلك تتمتع سوقها في حال انتظمت بقدرات استيعابية تشغل آلاف الطاقات ومئات الشركات الاستثمارية.
هذه المسائل تعرفها الولايات المتحدة، وأيضاً «إسرائيل»، ولكن كما ظهر للعيان أن «مجلس الحكم العراقي» نظر إلى الموضوع من منظار واشنطن ومصالحها لا من مصلحة بغداد وصلتها التاريخية - الجغرافية بالمحيط الإقليمي للعراق. فالمسألة ليست فقط مسألة ديمقراطية وحقوق إنسان وبرامج تربية وتعليم وأنظمة حكم ترى واشنطن أنه حان وقت تغييرها من طريق القوة. المسألة أكبر من ذلك فهي لها صلة بالمواقع والجغرافيا والاستراتيجية الدولية ودور المحيط الإقليمي الواعد في حال أحسن استخدام طاقاته وموارده البشرية وثرواته الطبيعية.
أخطأ «مجلس الحكم الانتقالي» في تقدير موقفه وخسر الرهان... لأنه غلّب الولاء للحاكم الأميركي على المصلحة المشتركة مع المحيط الإقليمي ونظر إلى المستقبل نظرة أمنية، بينما المطلوب هو قراءة سياسية للمشكلات ومحاولة البحث عن مدخل سياسي لأزمة الاحتلال بعد أن بلغ الأمن شفير الانهيار الشامل?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ