لعل ما يمنع من فتح الحوار التعددي داخل هذا الطرف أو ذاك أو داخل هذه الجمعية السياسية أو تلك هو الإجماع الذي يستحصل عليه على طريقة «مستعجلة». ويصاحب هذا النوع من الإجماع «المستعجل» إعلان حال طوارئ داخل صفوف الجماعة لإظهارها بمظهر التعاضد والاتفاق التام على كل شيء تم التصريح به. هذا الإجماع المستعجل يحقق منافع آنية لمن يسعى إليه ويرص الصفوف ويوحد القيادة مع القاعدة تحت شعارات محددة.
غير أنه ومع الأيام يصبح هذا النوع من الإجماع عبئاً على أصحابه ومانعاً لهم من تحريك أعمالهم وبرامجهم وما يسعون إليه إلى أمور أخرى وينحصرون في زاوية محددة. والمشكلة ليست في ذلك فقط، وإنما تتعداه إلى «سيادة» اعتقاد جازم بأن ما تم اتخاذه من قرار هو «الصحيح» وأن المستقبل «سيثبت» صحته أكثر فأكثر وما على الجميع إلا الانتظار لتثبت لهم «صحة» القرار والرأي والأجندة.
يستتبع ذلك عمل دؤوب من القائمين على أمر العمل لتقليل شأن كل المؤشرات التي تتحدث عن أضرار ذلك القرار المتخذ بحماس وتحميس، لتأكيد ضرورة الالتزام بالقرار والتضامن أمام الآخرين لكي يتوافر الوقت وتثبت صحة القرار.
تصاحب ذلك أطروحات متعددة تسعى إلى إثبات أنه حتى لو حدثت خسائر في القرار فإن «الطهارة السياسية» أفضل من الدخول إلى شئون الدنيا التي دخلها الآخرون. وفي هذا المجال يمكن الاستعانة بوسائل شتى لإثبات أن الذين التزموا ويلتزمون بالقرار «المستعجل» هم الطاهرون سياسياً، والآخرون انحرفوا وانساقوا إلى منافعهم الخاصة وأنهم إلى «بئس المصير».
ثم يتطور الأمر إلى «تنميط» العلاقات والتصورات بحيث يتم تكرار جمل مثل «ماذا تتوقع من هؤلاء؟»، أو «لا يمكن الوصول مع هذا الطرف أو ذاك إلى أي اتفاق لأن أصل الأمر غير صالح»، أو أي شيء آخر من الجمل المتكررة التي تحاول تعزيز قناعة الجماعة بأن ما اتخذوه على عجالة من أمرهم ونشروه فيما بينهم وبين الآخرين هو الصحيح وأن غيرهم خاطئون، وربما مفسدون.
والنتيجة هي إطلاق الاتهامات وربما الشتائم والسباب على أي فرد داخل هذه المجموعة يحاول التصريح بشيء يقترب من الخطيئة (الفساد) ويبتعد عن الصحيح (القرار المستعجل).
ورداً على هذا النوع من التفكير فإن البعض يلجأ إلى إخفاء رأيه خوفاً من اتهامه بانعدام الطهارة السياسية أو ينسحب بهدوء ويتعذر بأن لديه مشاغل حياتية أخرى تضغط عليه. وهناك من سيحاول طرح رأي آخر ولكنه لابد أن يكون مستعداً لموجة من ردود الأفعال الناتجة عن «النمطية» التي تسود من يحاول رص صفوفه على حساب التعددية في الآراء. فالتعددية في الرأي تصبح أمراً خطيراً لأن «الطوارئ» أعلنت لرص الصفوف خلف القرار الاستراتيجي المستعجل، وفي حال الطوارئ يتم تعليق كثير من الأمور الاعتيادية.
على أن استمرار حال الطوارئ داخل الجماعة يشبه إعلانات الطوارئ في عدد من بلدان الشرق الأوسط، إذ يتم تجديد حال الطوارئ عشرات السنين ويتم تعليق الحريات المدنية وتقمع الآراء تحت حجة الأحكام الاستثنائية.
وكما أن الأحكام الاستثنائية وحالات الطوارئ تنتج أشخاصاً يعلنون أنفسهم أوصياء لحماية الناس من خلال قمعهم، تنتج حال الطوارئ داخل هذه الجماعة أو تلك ممن يعتبرون أن واجبهم هو الحفاظ على الجماعة حتى لو كان ذلك من خلال أساليب ترفضها مبادئ الجماعة ذاتها?
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ