العدد 392 - الخميس 02 أكتوبر 2003م الموافق 05 شعبان 1424هـ

مبادرة شجاعة بدلاً من النفي المخادع!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

ميزة الاميركيين أنهم غالباً يصارحون الآخرين، يعلنون أهدافهم وسياساتهم على الملأ، فإن اخفاها بعض السياسيين، اعلنتها وسائل الاعلام، وإن تجاهلتها هذه، اهتمت بها مراكز البحوث، وهكذا يصبح كل شيء مطروحاً على الناس بحلوه ومره.

وعيبنا نحن أننا غالباً باطنيون، نخفي ما نضمر، نعلن ما لا نؤمن به، وصولا إلى ان حتى المتأمركين العرب، في غمرة دفاعهم الأعمى عن السياسات الاميركية، ينكرون المعلوم وينفون المعلن ويكذبون المصرح به، ليس لأنهم لا سمح الله لا يقرأون، ولكن لانهم يصرون على ان يكونوا «ملكيين اكثر من الملك».

لم يعد شيئاً خافيا ولا سرا مكتوما ان الاستراتيجية الاميركية المعلنة، بعد هجمات 11 سبتمبر/ ايلول 2001 الدامية، تصر على إجراء تغيير واسع في البلاد العربية، تركز اساساً على تغيير العقول والتفكير والاتجاهات، بعدما ايقنت هذه الاستراتيجية ان البيئة الفكرية الثقافية الدينية، والمناهج الدراسية، والحملات الاعلامية والأزمات السياسية الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، هي التي افرخت التطرف والارهاب والعنف، نتيجة - كما تعتقد - للفكر الخاطئ والعقل القاصر والاحباط الاجتماعي والقهر السياسي.

ولذلك، بعدما شنت اميركا حربين متتاليتين في افغانستان ثم في العراق - ومازالت متورطة فيهما - فهي مصرة على إعادة صوغ المجتمعات العربية الاسلامية، لتخرجها مما هي فيه، إلى ما تطمح السياسة الاميركية إليه، حتى تجفف منابع التطرف!

ولم يعد سراً خافيا على أحد - سوى على المنكرين المتعامين - ان خطة التغيير الاميركية، التي تبشر بها واشنطن صباح مساء، ترتكز على تغييرات جذرية وسريعة في أربعة مجالات، هي كالآتي: أولاً المناهج الدراسية والتعليمية، وثانياً الصحافة والإعلام والثقافة، وثالثاً النظم الاقتصادية، ورابعاً بنية النظام السياسي الحاكم في نهاية المطاف، بأعتباره مصدر التحكم والاستبداد في المنطقة!

وربما تكون دولنا العربية - في معظمها - قطعت شوطاً واضحاً في مجال تحرير الاقتصاد واطلاق آليات السوق، ليس فقط استجابة أو التقاء مع السياسة الاميركية، ولكن ايضا استجابة والتقاء بالتحولات العالمية الهائلة السائدة، والتي تلخص في كلمة العولمة، وعلى رغم العقبات القائمة والتضحيات والضغوط على فقرائنا، إلا ان السياسة الاميركية مازالت تطلب المزيد، وان كانت لا تبدي قلقاً شديداً ثقة من ان هذا التحول سيصل في النهاية إلى مداه.

الذي يقلق السياسة الاميركية الآن، هو ضرورة إجراء تغييرات اساسية في العقلية، في طرق التفكير، في تثقيف الشعوب، في وسائل صوغ آرائهم وتحديد اتجاهاتهم واختياراتهم ومواقفهم، لذلك فهي تلح الحاحاً علنياً شديدا وتمارس ضغوطاً - ايضا - علنية شديدة، لتغيير وتحديث المنظومة الثلاثية - التعليم والاعلام والثقافة - التي تتولى صوغ العقول وتكوين التفكير، باسم التطوير والتغيير وتعليم الديمقراطية، لكن المنكرين هنا ينكرون ويمارون وينفون ويكذبون!

بداية نقرر ان تطوير مناهج التعليم في مدارسنا، وإصلاح إعلامنا واطلاق حرية صحافتنا، وتحديث ثقافتنا، مطلب وطني وقومي قديم يتجدد كل فترة، بعد ان بان على هذه المنظومة الخمول والتخلف والجمود بسبب هيمنة السياسات الحكومية المتحكمة في كل شيء، لكن دعوات التطوير والتحديث هذه ضاعت وتخافتت عبر العقود الماضية، ربما لاسباب سياسية لا تخفى على عين، حتى وصلت أوضاع التعليم والإعلام والثقافة عندنا إلى مستويات متدنية، تقرعها على الدوام ارتفاع نسبة الأمية الابجدية - 45 في المئة في المتوسط العربي - وزيادة نسبة الأمية الثقافية، مع الانغلاق والتباعد عن الثقافات الحديثة الصاعدة، فضلا عن حال الصحافة الاسيرة وحريتها المحدودة، التي لا تخفى على أحد، ناهيك عن ضعف المشاركة السياسية.

ولذلك قلنا منذ زمن، مع القائلين، ان تطوير ذلك كله لتحرير العقل وضمانة حرية البحث والتفكير والاجتهاد، رورة وطنية، قبل ان تكون مطلباً أجنبيا، ولعلنا نتذكر اننا على سبيل المثال، نبهنا مبكراً إلى ضرورة التغيير «بيدنا لا بيد اميركا» في 12/ 6/2002، وما تلاه من مقالات تصب في اتجاه المطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي والتعليمي والثقافي في بلداننا...

الآن أصبحت المطرقة الاميركية، تدق الرؤوس بلا مواربة أو مخادعة، وتضغط طلباً للتغيير الذي تراه واشنطن مفيداً «لإصلاح عقولنا الفاسدة» وافكارنا المنحرفة وسياساتنا المستبدة، وتخوض مباشرة في طرح افكارها ومشروعاتها المعدة لتحقيق الهدف، فإذا معظم حكوماتنا الرشيدة، فضلا عن طائفة المنكرين المكذبين، تنفي اي ضغوط عليها، ثم تعلن انها تجري تغييرا في المناهج التعليمية بإرادتها، ثم تعود لتنفي، وهكذا دواليك، ما خلق مناخاً من البلبلة والارتباك!

وطرحنا من قبل للمناقشة - في هذا المكان - البرنامج الاميركي المعلن والمنقول من مصادر أميركية ورسمية، لتطوير الصحافة والإعلام في دول عربية حددها البرنامج بالاسم، ومن ابرز خطوات هذا البرنامج اصدار صحف واطلاق اذاعات وشبكات تلفزيونية اميركية الفكر والاسلوب والاسم والتمويل، من عواصم عربية، «تكون تعبيرا عن صحافة جديدة وإعلام حر بالاسلوب الاميركي، يساعد على الترويج للسياسات الاميركية في وجه موجات الرفض والكراهية السائدة في الدول العربية والاسلامية».

وبصرف النظر عمن انكر ونفى وجادل، ها نحن اليوم نكمل ايضاً برنامج اميركا لتغيير المناهج التعليمية في البلاد العربية، وهو ليس من اختراع المناهضين للسياسة الاميركية، أو الكارهين لانحيازاتها، ولكنه منقول عن مصادر اميركية مسئولة مباشرة عنه...

لقد نشرت الصحف المصرية، ومعظم الصحف العربية، يوم 22 سبتمبر/ايلول 2003، تصريحات رسمية على لسان «ايلينا رومانسكي» المسئولة عن تنفيذ مبادرة المشاركة الديمقراطية في وزارة الخارجية الاميركية، تؤكد فيها، «ان الادارة الاميركية تسعى الى تغيير المناهج التعليمية في الدول العربية، بما يؤدي الى التخلص من الحقد والتحريض على الكراهية والعنف في المنطقة، ذلك ان الاجيال المقبلة ليست في حاجة إلى مزيد من العنف، إن ما تسعى إليه الولايات المتحدة من تغيير المناهج التعليمية هو تكريس التسامح والاخاء بين الشعوب...» ( الأهرام وصحف اخرى 22/9/2003).

إذاً فالبرنامج الأميركي لتغيير مناهج التعليم العربية، مؤكد ومعلن وواضح، وقد جرى اختبار مدى تنفيذه، في العراق تحت الاحتلال الاميركي، كما جرى جزئيا في فلسطين، وهو قائم على قدم وساق في الدول العربية الاخرى، سواء انكرت بشكل مباشر، أو انكرت جزئياً ثم عادت فاستسلمت، ما يهمنا هو اثبات ان التدخل الاميركي في منظومة صوغ العقل وتشكيل الوعي في بلادنا، عبر تغيير اوضاع الصحافة والإعلام والتعليم والثقافة، اصبح حقيقة لا يماري فيها الممارون، بصرف النظر عما قالته المسئولة الاميركية عن العنف والكراهية، والتسامح والإخاء.

وستكتمل الحلقة قريباً، حين يصبح هذا التدخل صريحا وعلنياً ايضا لتغيير النظم السياسية الحاكمة والمتهمة بالفساد والاستبداد، وذلك انطلاقا من مبادرة «المشاركة من اجل الديمقراطية في الشرق الأوسط» التي طرحها وزير الخارجية الاميركي كولن باول في العام الماضي، ومرة ثانية فإن العراق وفلسطين هما الآن حقل التجارب الأولى الذي منه ينطلق «الاشعاع الديمقراطي الاميركي» ليعم العالمين العربي والاسلامي!

والحقيقة ان هذا الموقف يثير الالتباس والاضطراب في عقول الكثيرين فيربك مواقفهم، فمن ناحيتي على الاقل، كنت ومازلت وسأظل، من المطالبين بالتغيير، المنادين بالاصلاح السياسي الديمقراطي، الاقتصادي الاجتماعي، التعليمي الاعلامي الثقافي، بيدنا نحن وبأفكارنا ووفق مطالب شعبنا وتلبية لحاجات وطنية، لا بيد اميركا وعبر ضغوطها وبما يحقق اهدافها ومصالحها هي.

أما وأننا لم نفعل ذلك في الماضي، ومازلنا فيه الآن، فقد وقعنا في قبضة الضغط الاميركي، فرضاً للتغيير باسم الاصلاح الديمقراطي، بينما يعلم الجميع ان اميركا خصوصا والغرب عموما والدول التي استعمرتنا اساساً، لم تهتم في اي يوم قبل - 11 سبتمبر 2001 - باصلاح أو تحديث أو ديمقراطية في بلادنا، بل عملت بالعكس على ترسيخ التخلف والفقر، وعلى مساندة ومساعدة نظم فاسدة ومستبدة، لأنها تحقق لها اهدافها وتحمي مصالحها، على حساب مصالحنا وحريتنا وتقدمنا نحن.

فهل معارضتنا للتدخل الاميركي في صميم شئوننا الداخلية، ورفضنا للبرامج الاميركية لتغيير مناهج التعليم والإعلام والثقافة، وصولا لتغيير نظم الحكم، مبرر لايقاف الاصلاح وعرقلة التغيير ومصادرة التطور وفق برامج وطنية حقيقية ومخلصة، وهل يعطي هذا حجة لأحد للتمسك بما هو قائم من حال التخلف والفقر والفساد والاستبداد.

لا أظن أن عاقلا يقبل هذا المبرر أو يدافع عن تلك الحجة، وبالمثل لا أظن ان وطنياً يقبل بالانصياع للضغط الاميركي، أو يدافع عن برامجه، لفرض افكاره ومناهجه على عقولنا وعقول اجيالنا القادمة.

إن طموحنا في التقدم والارتقاء بأوطاننا، وسعينا للاصلاح والتحديث، ودفاعنا الدائم عن التطور الديمقراطي السليم، ورغبتنا المستمرة في الانفتاح على الثقافات العالمية، واقتحام ثورة العلم والتكنولوجيا وحرية الرأي والبحث والاجتهاد، ليست شعارات للاستهلاك المحلي، وبالمقابل ليست اغراءات ضاغطة تهب علينا مع العواصف من عواصم اخرى.

لكن ذلك كله ينبع من حاجة وطنية تنزع للتقدم والتطور الفعلي، وشرط نجاحها ان ترتبط بإرادة سياسية وطنية، وبتصميم وطني صلب، وبمبادرة وطنية شجاعة، تغلق ملفات الترهل والسلبية والكسل، وتتبنى فلسفة سياسية جريئة، وبرنامج عمل وطني، يجند كل امكانات الوطن، ويصبها في مجرى التغيير والتقدم الحقيقي، بكل حزم وعزم.

وغير ذلك كذب وخداع.

خير الكلام... يقول ابراهيم ناجي:

قلت للنفس وقد جُزنا الوصيدا

عجّلي، لا ينفع الحزم وئيدا?

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 392 - الخميس 02 أكتوبر 2003م الموافق 05 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً