ألقت الدولة بثقلها على المعتزلة. وحين تتحول السياسة الى ثقافة والثقافة الى سياسة تضعف لغة العقل ويصبح الخطاب أسير سلسلة من الأفكار يسهم الزمن في تحويلها الى نوع من الشعارات تجوف العقل من التفكير وتفرغه من امكانات التحليل والتجاوز. فالمأمون مثلاً وقع أسير المعتزلة كذلك سقط المعتزلي (المثقف) في هوى السلطة فاستخدمها واستخدمته بهدف توحيد الجماعة على مسألة واحدة هي: بدعة خلق القرآن.
بدعة خلق القرآن وامتحان الفقهاء والعلماء واستجوابهم على «سؤال خالق أم مخلوق» تحولت الى مشكلة سياسية بدأت في الكلام وانتهت في الفقه وكادت أن تمس جوهر التوحيد. فالخلاف لم يكن على الكلام والفلسفة وانما على الواحد ومصدر الموجودات. وهل أن خالق الكون والأشياء والحركات والأجزاء هو صانع واحد أم هناك شريك له؟ فالمشكلة أكبر من كلمة واحدة. المشكلة كانت اذا قال الفقيه (العالم) ان القرآن مخلوق فمعنى ذلك أنه ليس كلام الله وبالتالي سيضطر الى الانجرار وثم الاقرار بأن هناك أكثر من صانع.
الامام أحمد بن حنبل التزم جوابه الأول والوحيد وتمسك بقوله «هو كلام الله، لا أزيد على هذا». إلا أن هناك من العلماء والفقهاء والقضاة ضعف في الامتحان وانهار خوفاً من ارهاب السيف. ويحكى عن فقيه في عهد المأمون اصابه الرعب حين طلب منه الرد على سؤال: القرآن خالق أم مخلوق. فتلعثم المسكين ومن شدة خوفه أجاب: «مجعول».
ما حصل مع ابن البكاء الأكبر تكرر مع غيره وكادت أن تحصل فتنة وتقع مصيبة كبرى تأجل أمرها قليلاً بعد ان جاء نبأ وفاة المأمون.
المأمون لا يتحمل وحده مسئولية اثارة الفتنة، فهو ربما أصر على جانبها السياسي اختباراً لمدى ولاء الأئمة والعلماء والفقهاء له بينما لعبت المعتزلة فيها دور المحرض الايديولوجي لحسابات كبيرة تتجاوز سقف دولة المأمون. والمشكلة في المعتزلة انها لم تكن متفقة على موقف واحد ولم تكن فرقها متوافقة على أقوال مشتركة... حتى حين كان لها الكلمة الفصل في عهدي المأمون والمعتصم.
ومن هؤلاء كان بشر بن المعتمر (أبو سهل).
فبشر له من الكتب نثراً وشعراً كثير وألف أيضاً عشرات الدراسات الفلسفية (الكلامية) رد فيها على معارضيه من اساتذة الاعتزال في عصره، فهو هاجم العلاف في كتاب، ورد على النظام في كتاب، ورد على ضرار في مسألة المخلوق، ورد على هشام بن الحكم في مسألة الاستطاعة، ورد على الأصم، ثم عاد وألف «كتاب التولد على النظام».
أكثر كتب بشر كانت في المناظرات فاشتهر بكتب الردود، فهو رد على «ما عاب الكلام» وعلى الخوارج، والمجبرة، وعلى كلثوم وأصحابه، وعلى الملحدين والجهال، وأصحاب القدر، اضافة الى مؤلفات أخرى تناولت «المنزلة بين المنزلتين» و«تأويل متشابه القرآن» (الفهرست، ص 205).
تعدد عناوين كتب بشر (أبوسهل) تؤكد تنوع السجالات التي كانت سائدة في عصره (عصر الرشيد والمأمون والمعتصم). توفي بشر سنة 210 هـجرية (825 م) وهناك من يقول إنه توفي سنة 226 هجرية (841 م) في عهد المعتصم. وفي الكلامين يمكن القول إن بشر ترك أثره البالغ في تطوير فكر حركة المعتزلة ودفعها نحو المزيد من المغامرات الكلامية - الفلسفية.
وبسبب توتره الفكري شتم اساتذته ووصف العلاف (ابوالهذيل) بأنه «لايعلم وهو عند الناس يعلم. أحب اليه من أن يعلم ويكون عند الناس لا يعلم». وأكد الجاحظ الذي عاصر بشر المسألة بالقول: «كان بشر بن المعتمر يقع في أبي الهذيل وينسبه الى النفاق».
ربما يعود الخلاف الى الفارق في السن. فالعلاف من شيوخ المعتزلة القدامى ودخل على الفلسفة متأخراً، وبشر هو من الجيل الذي تتلمذ على يد مجموعة من الشيوخ على رأسهم العلاف. اضافة الى الفارق بين الجيلين هناك مسافة ايديولوجية تفصل العلاف عن بشر. وهذه المسافة عززتها المساحة الزمنية التي تفصل نشأة المعتزلة الأولى على الكلام وثم تحولها الى الفلسفة وانتقالها من المعارضة الى الدولة. فبشر ابن الدولة وهو استفاد من تجاربها ومواقعها ودورها لنشر أفكاره الخاصة التي اثارت غضب شيوخ المعتزلة ومن بينهم فيلسوفهم الكبير النظام.
اساس الاختلاف مع النظام كان موضوع «التولد». فالبشرية (فرقة بشر) احدثت القول بالتولد وانفردت بقولها ان اللون والطعم والرائحة والسمع يجوز ان تحصل متولدة من فعل الانسان.
يقول الشهرستاني عن بشر إنه «كان من أفضل علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه. وانفرد أصحابه بمسائل ست»... يعددها الشهرستاني واحدة بعد أخرى (الملل والنحل، الجزء الأول، ص 64 - 65). ونقل الامام الأشعري في كتابه «مقالات الاسلاميين» عن بشر قوله: «إرادة الله غير الله. والارادة على ضربين: إرادة وصف بها وهي فعل من فعله، وارادة وصف بها في ذاته، وإن ارادته الموصوف بها في ذاته غير لاحقة بمعاصي خلقه، وجوز وقوعها على سائر الأشياء». التولد إذاً مسألة فكرية - فلسفية في اساسها الا أن في معناها البعيد تحاول النيل من التوحيد وصفات الواحد ومقدراته وارادته. وهنا تحديداً يبدأ جوهر الخلاف بين بعض اتجاهات فرق المعتزلة ومجموعة العلماء والفقهاء والأئمة على مسألة «خلق القرآن». فالمعنى ليس في اللفظ وانما في الهدف البعيد وهو ضرب اسس التوحيد.
كان بشر من أوائل الصفوف التي رفعت سقف الكلام واستخدمت الفلسفة في معركتها الكلامية التي تناولت العقيدة والايمان. فبشر كما تقول كتب التاريخ ولد في الكوفة ويقال في بغداد. ولكن هناك ما يشبه الاجماع على أنه كان من كبار المعتزلة و«اليه انتهت الرياسة في وقته» كما يذكر ابن النديم.
إلا أن مبالغته في حكاية «التولد» دفعته الى الاصطدام مع بعض فرق المعتزلة فأقدمت على تكفيره ورد عليها بسلسلة كتب وكفرها في أمور أخرى.
يقول الامام البغدادي في «الفرق بين الفرق» ان أكثر ما كفرته المعتزلة كان قول بشر في خمس مسائل عددها بالتتابع الى أن افرط في القول بالتولد والمصدر الواحد للحركة حتى قال: ان الانسان يفعل الألوان والطعوم والروائح والرؤية والسمع وسائر الادراكات، كذلك قال الأمور نفسها عن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة «فهي تصير بالتولد»، كذلك ردد قوله: ان الحركة تحصل وليس الجسم في المكان الأول ولا في المكان الثاني، ولكن الجسم يتحرك به من الأول الى الثاني (الفرق بين الفرق، صفحات 141- 145).
ويكرر الفخري في كتابه «تلخيص البيان» الكلام نفسه عن أصحاب بشر بن المعتمر إذ انفردت فرقته بالقول «ان الله لم يخلق طعماً ولا لوناً (...) ولاعجزاً ولا كسباً ولا مرضاً ولا صحة، بل الخلق فاعلون ذلك بطبائعهم» (ص88).
أهمية بشر ليست في فرقته التي أثارت الشغب وشوشت كثيراً على اساتذة المعتزلة في عصره وبعد وفاته ولكن في تأثيره الفلسفي - الذهني على جيله. إذ كان له من المريدين والاتباع أكثر من غيره إلا أن تلامذته انقسموا وتفرقوا وتوزعوا على فرق مختلفة لا يجمعها جامع سوى انها اتفقت على بعض مسائل الاعتزال.
ومن هؤلاء الاتباع فرقة المردارية (أصحاب عيسى بن صبيح) التي أخذت اعتزالها عن البشرية وأخذ المردار من بشر العلم «وتزهد، ويسمى راهب المعتزلة» كما يقول الشهرستاني (ص 69). فالكلام في النهاية مجرد كلام، وما قاله بشر قاله غيره إلا أن نهايته كانت ضياع الوقت وإثارة فتنة احرجت «عقلانية» بعض شيوخ المعتزلة ومن بينهم أحد تلامذته عيسى بن صبيح (المردار) الذي اعتزل المعتزلة وابتعد عن استاذه... وتوفي سنة 226 هجرية وهي السنة التي رحل فيها بشر?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 392 - الخميس 02 أكتوبر 2003م الموافق 05 شعبان 1424هـ