تحت وقع التهديدات الاميركية التي تقرع طبول الحرب كل يوم ضد العراق وتواتر اخبار تصاعد الحشود العسكرية الاميركية في المنطقة استعدادا لتلك الحرب، وانعكاس ذلك على ارتفاع وانخفاض الاسعار في وقت يعيش فيه العراقيون حياة الكفاف في سنوات الحصار، ينصب انشغال غالبية العراقيين هذه الايام في الاستعداد لشهر رمضان مصحوبا باستقبالهم لشتاء يخشون ان يكون قارصا في ظل لهيب الحرب الاميركية التي لا تبقي ولا تذر من بنى البلد التحتية ولا سيما الكهرباء والماء والمجاري.
فهاجس الحرب ونذرها واضح في السلوك اليومي للعراقيين على رغم انصرافهم إلى حياتهم اليومية بشكل معتاد... ولعل ما تشهده الاسواق العراقية هذه الايام من امتناع عن شراء المدافئ الكهربائية واقبال متزايد على شراء المدافئ النفطية والقماصل الجلدية استعداداً للوقاية من برد شتاء يبدو انه سيكون قارصا في حال انقطاع التيار الكهربائي، ومثل هذا الاقبال جعل أسعارها في ارتفاع ملحوظ، حيث تم بيع المدفئة النفطية نوع عشتار المحلية الصنع بحوالي ربع مليون دينار عراقي للدرجة الاولى، و155 ألف للدرجة الثانية، ووصل سعر المدفئة فوجيكا الكورية إلى 65 ألف دينار، اما المدفئة الايرانية المنشأ فقد بيعت بسعر 50 ألف دينار... فيما تراوحت أسعار القماصل الجلدية من انتاج عراقي ما بين 75 - 140 ألف دينار للقطعة الواحدة ويتحدد سعر المفرد بنوعية الجلد ودرجة الفصال المطلوب.
هذا في الوقت الذي اصبح فيه سعر الدولار نحو 2030 ديناراً.
واذا كانت المشاهد الاساسية لاستقبال فصل الشتاء بهذا الاستعداد للوقاية من برده المنتظر، فإن واقع الاستعداد العراقي لاستقبال شهر رمضان يختلف قليلا عنه، والمشاهد الاولية لتأشير مظاهر الاستعداد لدى العائلة العراقية لصوم هذا الشهر، تبدأ من متابعة حال الاسواق، التي تبدو عامرة بكل مستلزمات وجبات الافطار المتعارفة في المائدة العراقية والمشهد الأول لهذا الاستعداد، عكس ما تفترضه آليات السوق، فالأيام التي تسبق شهر رمضان المبارك تشهد كما هي العادة ارتفاعا ملحوظا في الاسعار ولكن أسعار المواد الغذائية قد شهدت انخفاضا ملحوظا في معدلات الأسعار، ويعتقد محمد العبد (تاجر جملة) ان سبب الانخفاض عزوف العائلة العراقية عن زيادة مشترياتها من المواد الغذائية الجافة التي توزع في البطاقة التموينية منذ فرض الحصار على العراق، لا سيما وان وزارة التجارة قامت بتوزيع الحصص التموينية حتى نهاية هذا العام، في خطوة استباقية للحرب المرتقبة، ومن اجل تخفيف حجم الخسائر في المخزون الوطني من المواد الغذائية.
ويرى حسن علي خماس (بائع مفرد في منطقة اسواق الشورجة) ان بعض المواد غير الاساسية والتي لا تدخل في مفردات البطاقة التموينية تشهد هذه الايام تذبذبا في اسعارها لارتباطها بسعر صرف الدولار في السوق السوداء العراقية، إذ بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من مادة النومي بصرة (العماني) 8000 دينار، ويتراوح سعر المادة ذاتها من المنتج الإيراني حوالي 5 - 6 آلاف دينار، ويستهلك العراقيون الكثير من (النومي بصرة) في شهر رمضان لاعداد منقوعه وفقا لاعتقاد محلي بأنه يزيل العطش عن الصائم طيلة فترة النهار. ومن الاكلات العراقية التي تشتهر في مائدة الإفطار (مرق الطرشانة) لذلك ارتفع سعر الكيلوغرام منها إلى 2500 دينار.
اما أسعار المواد التي تدخل في نطاق الحصة التموينية، فقد بيع الكيس الواحد من الطحين زنة 50 كغم بسعر دينار وكذلك مادة الرز فقد وصل سعر الكيس زنة 50 كغم إلى 8000 دينار للمنشأ الفيتنامي، اما مادة السكر فقد استقر سعرها عند 600 دينار للكيلوغرام الواحد وسجلت مادة الدهن النباتي انخفاضا في اسعاره فوصل سعر الصفيحة زنة 15 كغم إلى 7500 دينار، وبيع الكغم الواحد من الشاي بسعر 750 ديناراً يقول كاظم محمد (تاجر) ان المتعاملين بالفائض من المواد التموينية لم يستطيعوا الايفاء بالتزاماتهم المالية، لأن غالبية العوائل لم تحتفظ بالمواد التموينية التي جهزت بها، وأخذت كفايتها وباعت الباقي، مما ادى إلى انخفاض أسعارها بشكل كبير، قبل حلول شهر رمضان المبارك.
وفي جولة في سوق الشواكة للخضراوات، وسط بغداد، يكمن ملاحظة استقرار الاسعار مع ميل إلى الانخفاض، فقد طرأ انخفاض طفيف على الاسعار من مصادرها في مراكز البيع بالجملة في علاوي الرشيد والدورة وجميلة، إذ بيعت مادة البطاطا بسعر 400 دينار للكغم وكذلك مادة العنب التي بيعت بسعر 300 وبيع الباذنجان بسعر 150 ديناراً، وأرجع الباعة هذا الاستقرار إلى كثرة المعروض من الفواكه والخضراوات. وفي حين شهدت اسعار لحوم الاغنام والدجاج والسمك ارتفاعا ملحوظا... وصل سعر الكيلو من لحوم الاغنام والابقار نحو دينار... اما الكيلو من اسعار لحوم الدجاج فقد تراوح بين 2250 و2750 بحسب الانواع وكذلك اسعار الاسماك التي ارتفع سعرها خلال الاسبوع الاخير بنحو 30? عن الاسبوع السابق إذ تذبذبت اسعار لحوم الاسماك مع ميل واضح إلى الارتفاع عموماً.
ولعل قراءة هذه الاسعار بلغة أكاديمية كما يراها الباحث حيدر حسن من الجامعة المستنصرية، تؤكد صدقية القول ان العراقيين اليوم أكثر دراية بمعنى وصية الامام علي بن ابي طالب (ع) «عش يومك كأنك تعيش ابدا وعش لآخرتك كأنك تموت غدا»، لأن الوقائع التحليلية لهذه الاسعار تبين بوضوح درجة المخاوف التي يعتمدها تجار الجملة في تعاملاتهم اليومية، فالبيع والشراء يتم في لحظة الاتفاق على سعر البضاعة بما يعرف في التعاملات العراقية بالسعر الثابت، أي بقيمة البضاعة بالدولار الاميركي بوصفه سعراً موازياً من دون الالتفات إلى سعره في تغيرات شبه يومية في الصعود أو الهبوط، والقول ان توزيع الحصص التموينية لأشهر كثيرة قبل موعدها قد عجل بانخفاض الاسعار، فيه الكثير من الصحة، ويعبر حسن عن يقينه بأن هذه الاسعار ستشهد ارتفاعا كبيراً في القريب العاجل، اما خلال الضربة الاميركية المتوقعة ورغبة الشراء المتلهفة عند الناس لخزن المواد الغذائية واما في القريب المنظور بعد تصريف هذه المواد من قبل العوائل العراقية ولا تجد من منفذ أمامها غير الاسواق لسد حاجتها منها، ولكنه يستدرك ان كلتا الحالين ربما لا تقعان خلال شهر رمضان المبارك اذا ما احترمت اميركا فعلا قدسية هذا الشهر عند العرب والمسلمين ولم تشن حربها المرجحة ضد العراق. ولكن يبقى السؤال الذي يتداوله العراقيون فيما بينهم بشكل يومي: هل تقع الحرب ومتى... هل سيكون دوي القنابل والصواريخ الاميركية بديلا لطبول السحور في رمضان؟ سؤال لا احد يستطيع ان يعطي اجابة جازمة له?
العدد 62 - الأربعاء 06 نوفمبر 2002م الموافق 01 رمضان 1423هـ