نقرأ أو نشاهد في أوعية المعلومات المختلفة، النصية منها والمصورة على التوالي، تعبيرات أو مقاطع من نمط « اقتصاد المعرفة .... الاقتصاد المبني على المعرفة ... مجتمع المعرفة..... الاقتصاد الرقمي .. اقتصاد المعلومات ... إلخ «. تثير مثل هذه التعبيرات الكثير من علامات الاستفهام لدى القارئ العادي. بل ولربما نجدها تثير الكثير من الأسئلة، وإن كانت ذات طبيعة مختلفة، لدى الكثير من الضالعين في الاقتصاد والمعلومات وشئونها.
الشيء المؤكد الذي لا يختلف فيه اثنان هو أن العالم اليوم يتجه أكثر فأكثر نحو بناء ما يمكن أن نطلق عليه مجتمع المعرفة، الذي بحاجة إلى آليات تدير اقتصادات لا يمكن أن يتولاها، وبالكفاءة المطلوبة سوى اقتصاد المعرفة. وهو باختصار ذلك الاقتصاد الذي، بشكل عام، تزداد فيه نسبة القيمة المضافة المعرفية بشكل كبير، والذي أصبحت فيه السلع المعرفية أو سلع المعلومات من السلع المهمة جداً.
هذا التحول من الاقتصاد التقليدي نحو اقتصاد المعرفة هو بمثابة نهاية منطقية للقفزة التي شهدتها المجتمعات البشرية في نهاية القرن العشرين، والتي كانت نتيجة طبيعية للتطور الهائل في العلم والتكنولوجيا، الأمر الذي حقق نوعاً من التراكم المعرفي حازته الدول المتقدمة في الغالب. هذا التراكم المعرفي واكبه، أو صاحبه، أو ارتبط به، وفي أحيان كثيرة انبثق عنه تطوران في غاية الأهمية: الأول هو التراكم الرأسمالي السريع نسبياً مقارنة مع تراكمات رأس المال التي شهدها نمطا الإنتاج التقليدي وهما الزراعي ومن بعده الصناعي. والثاني هو السرعة في التقدم العلمي والتكنولوجي والذي تجسد في تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات.
ربما هذا التميز النوعي هو الذي جعل البعض مثل السيسولوجي الأميركي الشهير ألفين توفلر يذهب إلى القول إن مجتمع المعرفة هو مرحلة جديدة من مراحل التطور أعقبت المرحلة الصناعية وهي التي يطلق عليها اسم (الموجة الثالثة)، باعتبار أن البشرية قد عرفت في تاريخها موجتين حضاريتين سابقتين هما: موجة عصر الزراعة، وموجة عصر الصناعة، وها هي ذي اليوم تدخل عصر المعرفة.
لكن ما يجدر التنويه إليه هنا هو أن المعرفة أو مجتمع المعرفة ليست إبداعاً جديداً يخص هذا العصر فقط، من دون غيره من العصور السابقة، بل إن المعرفة قديمة قدم الإنسان، كما أن مجتمع المعرفة يعود في جذوره إلى أول مجتمع بناه الإنسان. فالإنسان بالتكوين الذي يمتلكه قادر، أكثر من سواه من الكائنات الأخرى، على ملاحظة «الحقائق»، والحقائق معارف، وهو مفطور على تكوين «الأفكار والنظريات وأساليب العمل»، والأفكار والنظريات وأساليب العمل «معارف»، وهو متمكّن من تلقي الحقائق والأفكار والأساليب، واستخدامها واستخلاص «النتائج والقرارات والتوجهات» والعمل على تنفيذها والاستفادة منها، والنتائج والقرارات والتوجهات أيضاً معارف. وقد تراكمت معارف الإنسان على مدى العصور، وراحت الحضارات تنقل عن سابقاتها، وتضيف إليها المزيد، حتى جاءت العصور الحديثة لتقدم قفزة معرفية كبيرة ليست فقط في «زيادة» المعارف كماً، أو في «تطويرها» نوعاً، بل في «طرق» التعامل معها، من خلال التقنيات الرقمية التي تسمح بتخزينها والتعامل معها بسهولة، وتتيح نقلها ونشرها على نطاق واسع بسرعة وفاعلية.
وقد أدت القفزة المعرفية التي نشهدها اليوم إلى بروز معطيات جديدة للمجتمعات الإنسانية، لم تعرفها المجتمعات السابقة. وهكذا برز تعبير «مجتمع المعرفة» بحلة جديدة حاملاً هذه المعطيات في صفاته، ومتطلعاً أيضاً إلى تعزيز الإمكانات المعرفية، والعمل على الاستفادة منها في تطوير المجتمعات الإنسانية. ولعل من أبرز أمثلة الاهتمام بمجتمع المعرفة ما يقوم به الاتحاد الأوروبي في هذا المجال.
وبعض الظواهر التي تميز المعرفة في العصر الحاضر من العصور السابقة هو ذلك الاهتمام المتنامي التي باتت توليه المجتمعات البشرية لمسألة المعرفة. ففي مؤتمر القمة الأوروبي الذي عُقد في لشبونه في العام 2000م، اتخذت قرارات لدعم التوجه نحو بناء هذا المجتمع وتطويره والاستفادة من معطياته. ومن جانب آخر على المستوى العربي، فإن من أبرز أمثلة هذا الاهتمام التقرير الثاني للتنمية الإنسانية العربية الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والذي حمل شعار «نحو إقامة مجتمع المعرفة»?
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ