في إحدى الدول الصناعية المتقدمة، قام رئيس وزرائها بجولة تفقدية لأحد المصانع. وبينما كان يداعب العمال أثناء تجواله في المصنع، ظهر رجل فجأة، وما لبث أن صفع الرئيس على وجهه صفعة قوية سمع صوتها من كانوا بالقرب من الموكب، فأسرع الحرس الشخصي واقتادوا الرجل بعيداً، ليرسل فيما بعد إلى التحقيق. وتبّين أن الرجل فقد وظيفته منذ أشهر عديدة، وإهمال الحكومة دفعه لهذه الفعلة. وتفّهم القاضي دوافع الرجل، فحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، وأُلزمت الحكومة بتوفير وظيفة له ودفع مستحقات البطالة عن الشهور الماضية.
لا أدري مدى دقة القصة، لهذا تجنبت ذكر تفاصيلها والدولة ورئيس الوزراء المعني، غير أنها تعكس حقيقة يمكن استيعابها، وهي أن الجوع كافر، وحين نوصم الجوع بالكفر، فهذا يعود لما يخلّفه عدم الإيمان بالله ونفي الإيمان بالثواب والعقاب الأخروي من سلوك غير سوي على الأفراد، وهذا ما دفع الصحابي العظيم أبا ذر الغفاري (رض) إلى القول: «عجبت من رجل لم يجد قوت يومه وما خرج على الناس شاهراً سيفه»، إذ أن من الأسباب وراء قيام الدولة في التاريخ، تنظيم الحياة الاجتماعية بحيث توّفر العيش الكريم لمواطنيها، وحين تعجز عن ذلك، تحدث الفوضى فيخرج على الناس من يدفعه جوع البطن ليشهر سيفه. والسبيل الصحيح لتوفير العيش الكريم هو إيجاد فرص عمل ذات دخل مجزٍ. وفي وضعنا الحالي فان هذا ما يزال حلماً بعيداً عن التحقق، إلى حد الآن، لأكثر المواطنين عندنا. وسيزداد بعداً لأمد ليس بقريب خصوصاً وإن المملكة في طريق تبني اقتصاد السوق الحر الذي يعتبر القائمة الأساسية في النظام الرأسمالي، وهو نظام يخلي أرباب العمل من مسئولية الالتزام بحد أدنى للراتب، لتعارض ذلك مع الحرية الاقتصادية وفق فهم هذا النظام. بل في ظلّ موجة العولمة وفتح أسواق المنطقة للشركات متعددة الجنسيات التي تبحث عن أقصى درجة من الربح، لا يوجد إلزام بتوظيف نسبة معينة من المواطنين، وقد عبّر أكثر من مسئول بحريني عن هذا التوّجه المتمثل في تخلي الدولة عن دورها الحمائي، سواء فيما يتعلق ببعض الصناعات الوطنية أو بالعمالة الوطنية، ففي الماضي- مثلا- كانت وزارة العمل تفرض توفير فرص عمل للمواطنين في القطاع الخاص من خلال قرارات حكومية لهذا الغرض، تحدد لرب العمل توظيف نسبة من المواطنين من مجمل الموظفين لديه.
وفي ظل هذا التوّجه فإنه وإن استطاعت وزارة العمل تقليل نسبة البطالة بدرجة كبيرة جداً - وهي مشكورة على هذا الجهد - إلا أنه من الصعوبة بمكان توفير عدالة في شروط العمل تكفل تحقيق راتب يحيا به العامل بكرامة، وأقصى ما استطاعت تحقيقه، إقناع - وليس إلزاماً قانونياً أو وفق آليات تعمل بشكل تلقائي- بعض أرباب العمل بدفع راتب مقداره 200 دينار للموظف البحريني، وهذا الراتب أقل ما يقال عنه في ظل كلفة المعيشة الحالية، أنه بعيد عن الإنصاف، لهذا ستبقى الدولة ما بقي هذا الوضع، قاصرة أو مقصّرة في واجبها حيال مادة صريحة في الدستور يقول نصها: «تكفل الدولة توفير فرص العمل للمواطنين وعدالة شروطه» (المادة 13، بند ب). وفي المادة نفسها، بند (د)، تنص على مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية في العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال، وهو ما لا واقع له في أكثر المنشآت.
وفي ضوء واقع سوق العمل هذا والظروف المعيشية المعروفة، فان الدولة في الوقت الحالي وهي متجهة نحو خيار اقتصاد السوق الحر، تتحمل مسئولية أكبر من السابق حيال مسألة الضمان الاجتماعي تجاه مواطنيها، وذلك بالسعي لتحقيق الحد الكافي من المستوى المعيشي للمحتاجين، سواء أكانت الحاجة سببها ضعف الراتب الذي يعد مشكلة الأكثرية الساحقة من المواطنين أو العجز الذاتي كالمرض أو اليتم أو التعطّل. وبغض النظر عن التفاصيل، فان إعلان وزير العمل، مجيد العلوي عن إقرار الملك لقانون التأمين ضد التعطل («الوسط»، 15 ديسمبر 2006) الذي سيمرر على مجلس النواب، يعد خطوة جديرة بالاهتمام والتقدير، وخطوة على الطريق الصحيح لتنفيذ ما نص عليه الدستور في هذا السياق، إذ جاء في المادة 5 بند ج، ما يلي: «تكفل الدولة تحقيق الضمان الاجتماعي اللازم للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو اليتم أو الترمل أو البطالة، كما تؤمّن لهم خدمات التأمين الاجتماعي والرعاية الصحية، وتعمل على وقايتهم من براثن الجهل والخوف والفاقة».
ومن المفيد لفت النظر إلى أن الضمان الاجتماعي وتوفير الخدمات للمواطنين من قبل الدولة يتناقض مع الفهم القديم لمبادئ الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي، ويعتبر تدخلاً من قبل الدولة في شأن الاقتصاد، إلا أن التجربة التي أثبتت أن النظام الرأسمالي قد يحيل أكثرية الناس إلى فقراء وجيّاع، ما يمهّد السبيل للاضطرابات والفوضى، هذه التجربة دفعت - كما يذكر بعض الباحثين - الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة للعناية بالضمان الاجتماعي لمواطنيها من أجل استمرارها في طريق التقدم الاقتصادي وازدهار التنمية، لأن التفاوت الفاحش الذي يحيل المجتمع إلى فئتين، أقلية متخمة وأكثرية عاجزة وفقيرة، من شأنه توهين التماسك الاجتماعي الذي يعتبر مقدمة ضرورية لتحقيق التنمية. لهذا سارعت هذه الدول إلى الأخذ بالضمان الاجتماعي والعناية بتوفير الخدمات لمواطنيها عن طريق فرض ضرائب تصاعدية كبيرة على الدخول، سواء دخول الشخصيات الحقيقية أم الشخصيات الاعتبارية.
إن تبني اقتصاد السوق الحر كسبيل وآلية للتنمية، ينبغي أن يكون هدفه رفع مستوى الرفاه لكافة المواطنين، وليس لمجرد تكديس الثروة في أيدي قلة من الناس، ولهذا على الدولة أن تحذو حذو الدول الأوروبية العريقة في تبنيها وتجاربها مع هذا النظام، وهو العناية بالضمان الاجتماعي والخدمات من أجل رأب الصدع الذي يحدثه التفاوت الاقتصادي الهائل في المجتمع، والذي يعتبر نتيجة حتمية للحرية الاقتصادية المطلقة وفق النظام الرأسمالي ومبدئه الرئيس متمثلاً في حرية السوق?
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ