العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ

لا عفو عند المقدرة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«العفو عند المقدرة». العفو صفة من صفات القادر والقوي والشجاع والواثق من نفسه. كذلك العفو من شيم المنتصر الذي اكتسب مناعة ضد القهر وتجاوز آلام ذاته وارتقى بها إلى ثقافة أعلى من روح الانتقام الثأر والكراهية. فالعفو هو إشارة للآخر بأنه مختلف وأنه ليس على صورة المجرم وأنه يتمتع بحرية القرار وهو في الوقت الذي يستطيع فيه تنفيذ الحكم الذي يريد قرر ألا يستخدم صلاحياته وألا يفرط بها في عملية تعيد إنتاج الماضي. كل هذه الصفات هي من شيم القادر الذي يستطيع أن يختار الطريق المختلف الذي سار عليه كل المجرمين من قبله.

مقابل هذا يمكن قراءة العكس. فعدم العفو عند المقدرة يدل على صفات سيئة وسلبية تشبه كثيراً ثقافة المجرم وسلوكه. ومن لا يعفو في لحظة المقدرة يعني أنه غير قادر وضعيف وخائف وغير واثق من نفسه. كذلك يدل على أنه طرف مهزوم ولم يكتسب مناعة ضد القهر ولايزال أسير آلامه ولم ينجح في تأسيس ثقافة مضادة تكسبه روحية تتجاوز عقليات الانتقام والثأر والكراهية. فمن لا يعفو في حال المقدرة يعطي إشارة واضحة للآخر بأنه ليس مختلفاً عنه بل يشبه المجرم في صورته ومثاله.

هذه هي المعادلة المفهومية لحكمة «العفو عند المقدرة». ومثل هذه المعادلة في شقيها الايجابي والسلبي يمكن سحبها على تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس الدكتاتور صدام حسين في يوم عيد الأضحى. فالحكم حصل ولا يمكن العودة بالزمن إلى الوراء. إلا أن تنفيذ الحكم بإشراف الاحتلال الأميركي ورعايته وتشجيعه يعطي فكرة عن حال الولايات المتحدة ودورها في المنطقة. لو كانت الإدارة الأميركية ناجحة في احتلالها وواثقة من انتصارها لما تصرفت بهذه الطريقة ولما كانت اتخذت هذا القرار. فالقرار هو إشارة واضحة لهزيمة ذاك «النموذج» الذي وعدت شعوب المنطقة بتصديره إليها. وفشل النموذج يمكن ملاحظته في صور الفوضى والعبث والتمزيق والتفكيك والسرقات والنهب والقتل والتفخيخ والاغتيالات. وبسبب هذا الفشل لجأ الاحتلال إلى الانتقام والثأر وبث روح الكراهية والتشجيع على استكمال سياسة الأحقاد.

إعدام صدام حسين يمكن وضعه في هذا الإطار. وكل كلام أميركي عن العدالة مجرد ترهات لا قيمة لها. فالناجح لا يرتكب حماقات. والمنتصر لا يعبث بالعراق بالأسلوب التدميري والنهج التقويضي وتعليم الناس استخدام سياسات المجرم. فالإعدام هو نتاج الفشل الأميركي والعفو هو إشارة إلى قوة المنتصر. وبما أن الإعدام حصل فمعنى ذلك أن الولايات المتحدة اعترفت علناً بأنها وصلت إلى آفاق مسدودة ولا مستقبل لها في المنطقة إلا في حال واحدة وهي تقليد المجرم في أفعاله واستلهام الدكتاتور وإعادة بعث صورته ومثاله.

بعيداً عن هذه الصورة العبثية تبقى هناك مجموعة أسئلة. من يتحمل مسئولية الإعدام؟ ولماذا أعدم؟ ولماذا الاستعجال في تنفيذ الحكم؟ وما هي الرسالة التي تريد واشنطن بعثها إلى المنطقة؟ وما هو ثمن رأس صدام؟ وماذا بعد الإعدام؟

مسئولية أميركا

مبدئياً، تتحمل الولايات المتحدة مسئولية الإعدام مباشرة وغير مباشرة. فهي مسئولة سياسياً عن العراق، والرئيس جورج بوش هو الحاكم الفعلي لبلاد الرافدين بينما الحكومات التي تشكلت بعد الاحتلال كلها مجرد أدوات استخدمتها لتقويض الدولة من الداخل وتفكيك العلاقات الأهلية وبعثرتها إلى مناطق وطوائف ومذاهب. إضافة إلى المسئولية السياسية تتحمل واشنطن المسئولية الخلقية والثقافية والإنسانية وأيضاً القانونية. فالقانون الدولي (اتفاقات جنيف) يعتبر أن الدولة المحتلة تتحمل مسئولية كل ما يحصل في البلد الذي يتعرض للاحتلال. وكل ما حصل في العراق بعد العام 2003 من دمار وخراب وقتل وحرق وسحل وسجن وانتهاكات وإعدامات واغتيالات تتحمل مسئوليته الولايات المتحدة بصفتها الدولة التي اتخذت قرار الحرب والاحتلال. وحكم الإعدام وتنفيذه يطرحان أسئلة عن السبب الذي أملى هذا القرار والاستعجال الذي سيطر على آليات التطبيق. السبب واضح وهو الفشل في تقديم نموذج معاكس لفترة صدام حسين؛ فلو نجحت واشنطن في بناء البديل لما اضطرت إلى اللجوء إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة. أما لماذا استعجلت واشنطن في التنفيذ في يوم الأضحى وقبل نهاية السنة الميلادية فهذا يدل على أمرين. الأول، إن أميركا تريد توظيف ورقة الإعدام سياسياً خدمة لمشروع التقويض الذي لا يكتمل من دون دفع العلاقات الأهلية إلى مزيد من التأزم وصولاً إلى الانفجار الداخلي وعدم السماح بإعادة الدولة الواحدة والمشتركة لكل أبناء العراق. والثاني، إن بوش يريد «هدية» شخصية يستخدمها في تعامله الداخلي مع الرأي العام الأميركي، كذلك يريد أن يقدم مكسباً لفشله من خلال إعادة النظر في استراتيجية يقال إنه يستعد إلى إعلانها قريباً بعد الاحتفال برأس السنة الميلادية.

الاستعجال إذاً يستهدف «دق إسفين» يغذي مشاعر الكراهية ويشعل فتيل الفتنة الأهلية مقابل الحصول على «عيدية» ترضي غروره وتعزز قوة فقدت صدقيتها في الشارع الأميركي.

وبناء على هذا التحليل، ما هي الرسالة التي يريد بوش بعثها إلى المنطقة، تخويف زعماء الدول العربية أم إرضاء شعوب المنطقة؟ التخويف هو المرجح، ولكن شعوب المنطقة ستقف منقسمة على نفسها بين مرحب بالخطوة ومندد بها وحذر في التعامل معها. فالناس في المنطقة ليست مع الدكتاتورية وأي دكتاتور، ولكنها أيضاً ضد الاحتلال الأميركي وترفض أن يصنع الاحتلال مستقبل الشعوب. وبين هذا وذاك تتجه شعوب المنطقة إلى مزيد من التمزق والضياع لأن المشاعر غير موحدة وغير متوافقة على الأولوية. فهل الأولوية للاحتلال أم للدكتاتورية؟ وبما أن الأجوبة متفاوتة والخيار صعب ترجح أن تكون النتيجة حائرة بين أولوية وأخرى.

إلا أن المسألة تتجاوز هذه النقطة في اعتبار أن بوش يريد إنقاذ نفسه لا إنقاذ المنطقة من ثقافة الثأر والانتقام والكراهية. فالإعدام يعيد طرح علامات تعجب بشأن الثمن. فما هو ثمن رأس صدام؟ ولماذا فرط بوش بهذه الورقة القوية التي كان يملكها؟ ولماذا تخلى عنها في وقت كان بإمكانه الاستفادة منها؟

هذه هي الأسئلة الحقيقية ومن يملك الأجوبة عنها يمكن أن يوضح الصورة من مختلف جوانبها. ماذا بعد صدام، عراق موحد أم منقسم مثلاً؟ فهل ثمن صدام هو قطع رأس الدولة ومنع قيامها بصيغة موحدة ومشتركة مرة أخرى، أم أن ثمن رأس صدام يتجاوز العراق وبالتالي لابد من مقابل له في الطرف الآخر؟

التفريط بورقة صدام بهذه السرعة وفي هذا التوقيت يطرح أسئلة بشأن مستقبل العراق والغايات التي تريدها واشنطن من خلال تمزيق أهل بلاد الرافدين ودفع شعوب المنطقة إلى الاصطفاف في معسكرات تتقاتل على جبهات متفرقة في وقت تكون إدارة بوش تخطط لمعركة أخرى.

حتى الآن يصعب تكوين فكرة شاملة عن الموضوع. إلا أن ردود الفعل السريعة أوضحت الكثير من الخطوط والخيوط؛ فهناك من رحب وعبر عن سعادته بالخطوة وهناك من تعامل معها بإهمال وهناك من رفضها وانتقدها بشدة. ولكن المحصلة لا تعطي صورة دقيقة عن الوضع في اعتبار أن بوش لم يعلن عن استراتيجيته بعد وبالتالي لابد من الانتظار لرصد تفصيلات الإعدام في ثنايا خطابه الذي يستعد إلى توجيهه للأمة الأميركية بعد الانتهاء من احتفالات رأس السنة. هل يكون رأس صدام مناسبة للإعلان عن الانتصار والبدء في وضع جدول زمني يوضح عملية الانسحاب، أم أنه سيكون مناسبة للإعلان عن سياسة متشددة في التعامل مع المقاومة العراقية في الداخل وبداية تصعيد ضد دول الجوار المتهمة أميركياً بدعم تلك المقاومة؟

السؤال «عن ماذا بعد صدام؟» يحتاج إلى وقت لرسم معالم الجواب. ولكن الأجوبة أحياناً لا تحتاج إلى عناء لفهم إشاراتها. فالرسالة السياسية والثقافية واضحة في أهدافها: لا عفو عند المقدرة?

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً