توقع مصدر مسئول في إدارة «البيت الأبيض» أن يؤدي تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى زيادة العنف وتوتير الأجواء في بلاد الرافدين. هذا التوقع صحيح وفي ملحه. فالإعدام لاشك سيرفع من وتيرة الأحقاد الطائفية والمذهبية وسيؤدي إلى مزيد من الشرخ في العلاقات الأهلية بالعراق ودول الجوار نظراً إلى تلك الالتباسات التي تحيط بالمحاكمة وصدور حكم الإعدام.
التوقع الأميركي لردود الفعل ليس سابقاً لأوانه. فالولايات المتحدة تدرك ماذا تفعل وتعلم ماذا ستكون عليه حال العراق بعد تنفيذ حكم الإعدام؟ فهي الدولة المعتدية التي خططت للحرب وأرست قواعد الكراهية في بلاد عاشت أكثر من ثلاثة عقود متواصلة تحت حكم دكتاتوري مستبد استخدم العشيرة (العائلة) وسيلة للقهر والطائفة معبراً لتحطيم الجسور المذهبية وتمزيق النسيج الاجتماعي إلى دوائر متنافرة تنتظر الفرصة للثأر والانتقام.
كل هذا تعرفه الولايات المتحدة وهي أصلاً أسست استراتيجيتها التقويضية على أساس ردود الفعل وحصول مثل هذه الاحتمالات. وللأسف نجحت إلى حد كبير في خلخلة الأمن العام وامن المواطن وزرعت الأحقاد ولعبت على سياسة الثأر والكره حتى يصل العراق إلى درجة الانحطاط في علاقاته الأهلية. الآن وبعد أن لعبت إدارة واشنطن كل الأوراق فشجعت على تفخيخ السيارات وإرهاب الناس وخطف الأبرياء وقطع الرؤوس واغتيال العلماء وحرق المعاهد ونهب المتاحف والثروات وتفجير الاحياء المدنية والمرافق الحيوية والمساجد والحسينيات وصولاً إلى نسف مرقد العسكريين في سامراء وغيرها وغيرها من أفعال... وصلت وبعد نحو أربع سنوات من بدء الغزو إلى لعب ورقتها الأخيرة أو ما قبل الأخيرة وهي الإعدام.
إعدام صدام سيكون له انعكاساته السلبية على العراق والمنطقة وسيؤدي إلى مزيد من التوتر السياسي وسيرفع من نسبة الاستقطابات الأهلية وسيدفع الناس إلى مرتبة أعلى من الاستنفار الطائفي والمذهبي. وهذا ما قصده بالضبط المصدر المسئول في «البيت الأبيض» تعقيباً على صدور حكم الإعدام بصدام حسين. فالولايات المتحدة أصلاً أسست استراتيجيتها التقويضية التي تعتمد أسلوب «الفوضى البناءة» على قواعد نظرية تتصور فيها دويلات المنطقة بعد تفكيك دولها وتمزيق نسيجها الاجتماعي وعلاقاتها الأهلية. فالإعدام الذي تنوي تنفيذه ليست دوافعه حب واشنطن للعدالة أو تعلقها بالحرية. فهذه الأمور هي آخر ما تفكر به إدارة شريرة تقود الولايات المتحدة منذ ست سنوات. الإعدام برأي «البيت الأبيض» له وظائف أخرى قد تساعد واشنطن على استثمارها سياسياً في مشروعات التفكيك التي تعتمد اثارة الفوضى الأمنية ودفع الأطراف المحلية والإقليمية إلى درجة أعلى من التوتر والاستقطاب الأهلي واستنفار العصبيات والحساسيات الطائفية والمذهبية. فهذا بالضبط ما تريده واشنطن من تنفيذ حكم الإعدام وهذا ما توقعه المصدر المسئول في «البيت الأبيض» تعقيباً على الموضوع.
العراق الآن وبعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة على الاحتلال والتقويض والتفكيك والتمزيق وإعادة الفرز وبث الفوضى الأمنية بات جاهزاً للتقسيم السياسي وتشطير بلاد الرافدين إلى «دويلات طوائف» يغلفها ذاك الدستور المفخخ بعناصر التفجير. وإعدام صدام ربما يشكل في المخطط الاستراتيجي الأميركي تلك الورقة (صاعق التفجير) التي لابد أن تترك انفعالاتها المذهبية والطائفية وستؤدي إلى حركات ارتدادية تزعزع ما تبقى من أركان تقوم عليها هوية العراق المشتركة.
عدالة مزيفة
الولايات المتحدة تتاجر الآن بالعدالة وتتغطى تحت حكم القانون والقضاء والمحكمة لتمرير ورقة تفجير لما تبقى من علاقات أهلية صمدت نسبياً على رغم ما حصل من كوارث وزوابع عصفت ببلاد الرافدين. والمشكلة أن أميركا تلعب لعبة قذرة في موضوع لاخلاف عليه وهو ضرورة معاقبة المجرمين والمستبدين وكل من يحتقر الإنسان ويهين كرامته وحقوقه. وهنا بالضبط تكمن خطورة اللعبة الأميركية في استراتيجية العبث بأمن المنطقة وزعزعة توازنها واستقرارها. فصدام وصل إلى السلطة من طريق الانقلاب وأرسى نظام حكمه باعتماد سياسات التصفية والقتل والسحق والإرهاب وهذا ما أدى إلى تشكيل جبهة عريضة من الضحايا والمتضررين وأعطى ذريعة لكل القوى التي اقتص منها سلوك طريق الثأر والانتقام.
صدام ليس بريئاً ويتحمل الكثير من مسئولية ما وصل إليه العراق من حالات تمزق وانهيار. فهو استبد بالسلطة واتخذ سلسلة قرارات اتصفت بالنزعة العشائرية واضطهد الجزء الأكبر من أهل البلاد لأسباب طائفية وعنصرية لحماية موقعه من السقوط. وهو أيضاً انفرد بقرارات خطيرة ورطت الدولة في حروب أنهكت البلاد وبددت ثروتها وجرفت عشرات آلاف الضحايا. فكل هذا افتعله صدام خلال سنوات حكمه الطويل. إلا أن هذه العناوين الصحيحة ليست كافية لقراءة الدوافع الحقيقية التي أملت على الولايات المتحدة تنظيم محاكمة صدام بعد الاحتلال. فهناك قراءات مختلفة لابد من الانتباه جيداً لخلفياتها السياسية وكشف خفايا تلك العدالة المزيفة. وهذه القراءات تصب كلها في تعزيز الفتنة الأهلية في العراق وتشكيل جبهة انقسامات سياسية في داخل بلاد الرافدين وجوارها. وأميركا التي فشلت في تحقيق أهدافها الموضعية تحاول قدر الإمكان تسجيل اكبر قدر من الخراب الأهلي والعمراني لتغطية احتلالها وتبرير استمرار وجودها العسكري في منطقة تعتبر حيوية في ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية.
العدالة مجرد غطاء لسياسة أميركية غير عادلة. والظروف التي تحيط بإجراءات المحاكمة تعطي اشارات سيئة لأنها تتم في أجواء سلبية يجب عدم التقليل من خطورتها ومخاطرها وتعامل الناس في شعبهم المذهبية والطائفية معها. فالولايات المتحدة تخطط الآن لمشروعات فتنة وربما لمعارك حدود وحتى لحروب تقويض جديدة. وهذا لا يمكن الدفع نحوه من دون تأسيس عناصر توتر محلية وإقليمية تبرر مشروع التقويض. ولأجل إنجاح خطتها الأساسية لا تمانع واشنطن في اللعب على مشاعر ضحايا صدام والمتضررين من حكمه الاستبدادي الطويل. واللعب في المشاعر الطائفية والمذهبية في ظل الاحتلال وفي سياق فوضى أمنية سيؤدي إلى تأجيج نيران الأحقاد وزيادة الكره ورفع نسبة التنافر وربما إشعال فتيل الاقتتال بين قوى لها مصلحة مشتركة في طرد الاحتلال.
التوقع الذي صدر عن مصدر مسئول في «البيت الأبيض» ليس سراً. فالولايات المتحدة تدرك مسبقاً أن ورقة إعدام صدام ليس هدفها تحقيق العدالة ورفع الظلم عن الشعب العراقي وإنما ترسم خطة تقويض البلاد ودفعها إلى الاقتتال أو الانقسام أو الانهيار العام. وكل هذه النتائج التي توقعها المصدر الأميركي المسئول يستطيع جورج بوش استخدامها سياسياً لإعادة توظيفها في مشروع آخر يتجاوز حدود بلاد الرافدين?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1576 - الجمعة 29 ديسمبر 2006م الموافق 08 ذي الحجة 1427هـ