في هذا اليوم يقف ملايين المسلمين على صعيد عرفة ليشكلوا بذلك أكبر تجمع بشري عبادي على وجه الأرض وليؤدوا أهم منسك من مناسك الحج، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: «الحج عرفة» وقال كذلك: «من أدرك المشعر فقد أدرك الحج»، ويثير هذان الحديثان سؤالاً مهماً وهو لماذا اختزل النبي كل مناسك الحج في الموقفين دون المناسك الأخرى كالطواف والسعي والنحر على أهميتها؟ فهل هو شيء يرتبط بتاريخ هذين المنسكين أم بشيء آخر؟
ويمتاز الحج عن سائر العبادات الدينية بكثرة الأسئلة التي يثيرها في الأذهان ولعل ذلك لأجل ما يختزنه من رمزية واضحة وأكيدة، فمن الأسئلة ما يثيره البعض عن مظاهر تقديس الأحجار والأمكنة ومدى اختلاف ذلك عن الوثنية التي نهى عنها الإسلام ذاته؟ والحقيقة هي أن الإنسان ميال بطبعه الى توسيط الحس والمعاينة، فلذلك لا يوجد دين سماوي أو غير سماوي يخلو من الوسائط العينية في مقامي التوجه والتقديس ولكن الفارق هو أن الوسائط في ديانات التوحيد تكون بإذن الله الذي هو مصدر التقديس وفي سواها بغير إذنه، وذلك هو المعبر عنه في القرآن بكونه من دون الله كما في الآية 18 من سورة يونس: «ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم» وفي الآية 24 من سورة النمل: «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله»، فالإشكال إذاً هو في السجود للشمس من دون الله، أي بغير إذنه، فلذلك لمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم صار السجود أمراً مشروعاً ولم يكن عبادة له من دون الله. والسؤال الآخر هو قول بعضهم إذا كان الحج الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الطقوس التي كان متعارفاً عليها في الجاهلية فحينئذ ما الذي صنع الإسلام سوى محاكاة التقاليد العربية في جزيرة العرب؟ ولكن الواقع هو أنه لم يكن من مقاصد الدين الإسلامي نفي كل عناصر الثقافة الموجودة يوم ذاك سواء كانت يهودية أم عربية، وذلك لأن الكثير منها يمثل بقايا الأديان الإبراهيمية السابقة، فكان الإسلام بصدد تنقيتها وتهذيبها فحسب ولم يكن بصدد استبدال كل عناصرها ونفيها بشكل مطلق (.... مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه)، ولكن السؤال الأهم في نظري هو ما الذي سيرجع به الحجاج من مناسكهم؟ فهل ستتغير أخلاقهم وعلاقاتهم بمن حولهم الى الأفضل أم ستبقى كما هي قبل أداء الحج فيكون الحال كما قال الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج»؟ وهذا ما يدعونا الى التدبر في مقاصد الحج والتي أصبحت في واقعنا باهتة بالقياس الى ركام الشكليات الكثيرة بحيث صار أكثر همّ الحاج أن يتقن كيف يأتي بالمناسك بحسب الشروط المقررة لصحة الحج وبمقدار لا يخلو عن المبالغة ولكن مع الغفلة أو التغافل عن المقام الأرفع والأرقى وهو مقام القبول والنفع المعنوي لتلك المناسك، فمثلاً كيف ينسجم تحريم لبس المخيط الذي يساوق التجرد عن القيود والبهرجات مع ألوان الرفاهية التي يتسابق اليها الحجاج وتتزايد مظاهرها عاماً بعد عام؟ ولماذا لا تتحقق الغاية الأساسية للحج وهي التآلف والتراحم بين المسلمين ولا يحصل أي تقدم في هذا المجال؟ أليس ذلك لأننا نستصحب كل مستويات العصبية والفئوية التي نتصارع تحت سقوفها في بلداننا ثم نعيشها في الحج بكل تفاصيلها ولا شيء يتغير؟ وكذلك لا نحاول أن نستقيل ولو مؤقتاً من عاداتنا السيئة في التعامل مع الآخرين والتي نمارسها في حياتنا اليومية العادية مع ان القرآن يقول في آية 197 من سورة البقرة: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»، ثم ما هو مدى تأثير إيحاءات المناسك في نفوسنا وما مدى تأملنا في مداليلها؟ فماذا يعني الإحرام؟ وماذا يعني رمي الجمار؟ وماذا تعني الأضحية؟ وقبل ذلك ماذا تعني عرفة؟ وماذا يعني الترتيب بينها وبين المشعر؟ وتعجبني هنا التفاتة لطيفة للمرحوم الدكتور علي شريعتي ذكرها في بحث له عن الحج ومحصلها ان عرفة دلالة على المعرفة والمشعر دلالة على الشعور الذي يجب أن يبنى على المعرفة، فلذلك صار المشعر بعد عرفة، ولأنه لا تقدس في المعرفة فلا توجد معرفة مدنسة ومعرفة مقدسة، ولكن من الشعور ما هو نبيل ومقدس وهو الحب لله والحق، ومنه ما هو شرير ومدنس وهو العداء لله والحق، لذلك لم تكن عرفة من الحرم، ولا يقال عرفات الحرام كما يقال المشعر الحرام، وحيث إن المعرفة المقبولة تتعدد وذلك لأن العبرة ليست بتوحد القناعات بل بطريقة التفكير وإن تعددت النتائج، فلذلك تجمع عرفة فيقال عرفات، ولكن الشعور المقبول يجب أن يكون واحداً وهو الشعور بالرحمة والخير للإنسان والعالم، ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم اعتبر الشرائع الدينية المتعددة شيئاً واحداً، إذ قال في الآية 13 من سورة الشورى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى»، مع أنها مختلفة في أحكامها وقوانينها والسبب في ذلك هو أنها واحدة بلحاظ الحس والشعور الواحد الذي تسعى لصنعه في النفوس، وكذلك نجد ان الطواف يكون بحركة دائرية لأنه شعار الحركة الى الله وهي حركة ليس لها انتهاء، فلا يصل الإنسان الى نقطة النهاية فيها، ولكن السعي بين الصفا والمروة هو رمز للسعي الى معاش الدنيا - رمزية بحث هاجر عن الماء - وهو وإن كان سعياً دءوباً وطويلاً ولكن له نهاية ينتهي اليها، ثم إنه من المهم ملاحظة يسر الشريعة وسعتها في مقام أداء مناسك الحج كغيرها من وظائف الشريعة، وهذه القضية المهمة لعلها منشأ اهتمام القرآن بقصة تاريخية ماضية كقصة البقرة وكيف إن بني إسرائيل تمادوا في الأسئلة والتفريعات مع أنه كان الأجدر بهم الأخذ بمطلق الأمر وسعته، فنجد في هذه القصة الكثير من العبر والدلالة لقارئها، ولذلك ورد عن النبي في حديث مشهور «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».
ولا نغالي كثيراً إذا قلنا إن حال المسلمين اليوم لا يختلف كثيراً عن أحوال مَنْ قبلهم من الأمم من حيث النشوء التراكمي للتوالدات التي تحيد وتبتعد تدريجياً عن النواة الأولى للشريعة، فهل يتلاءم التدقيق الشديد في كيفية الطواف مثلاً والسمت الذي يجب أن يلتزمه الحاج في طوافه مع كون النبي طاف راكباً على ناقته كما في رواية مشهورة؟ وفي رواية أخرى إن بعض الصحابة شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال كنت أحسب أن كذا قبل كذا ثم قام آخر فقال كنت أحسب أن كذا قبل كذا حلقت قبل أن أنحر نحرت قبل أن أرمي وأشباه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: افعل ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعل ولا حرج.
ويوجد سؤال شائع وهو لماذا لم يتفق نقل جيل الصحابة الأول في الكثير من الفروع الفقهية التي كان يمارسها النبي بينهم مكرراً، كقضية البسملة قبل السورة ومسائل الجهر والإخفات وغير ذلك من الممارسات العبادية المتكررة في سلوك النبي صلى الله عليه وآله بصورة واضحة لا لبس فيها، ما أدى الى اختلاف الفقهاء في تلك المسائل؟ وقد تعددت التفسيرات والأجوبة وتراوحت بين السلب والإيجاب، ولكن من المحتمل في نظري أن يعود جزء كبير من ذلك الى حال التلقائية والسعة التي كانت لدى الجيل المعاصر للنبي في نظرتهم الى الشريعة، تلك الحال التي فقدتها الأجيال اللاحقة قي سياق التطور التاريخي للتشكل الفقهي طيلة قرون متلاحقة?
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1575 - الخميس 28 ديسمبر 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1427هـ