العدد 1575 - الخميس 28 ديسمبر 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1427هـ

إدارة المعرفة: رؤية مستقبلية

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كراس صغير يصدر عن مؤسسة دار المعارف المصرية في إطار مشروع “اقرأ: سلسلة ثقافية شهرية”. صدر الكراس في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وهو يحمل عنوان “إدارة المعرف: رؤية مستقبلية”. الكتيب من تأليف د. محمد رؤوف حامد المعرفة، ويقع في نحو 130 صفحة من القطع الصغير.

ومن العنوان يستطيع القارئ أن يستشف أن المؤلف يتحدث عن التحولات المعرفية التي طرأت على المجتمعات البشرية في الربع الأخير من القرن الماضي، لكنه بدلاً من حصرها في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، نراه يتناول الجوانب العلمية وانعكاساتها على الجوانب الإدارية.

يستهل الكاتب الكراس بفقرة مكثفة يختزل فيها رؤيته لموضوعة المعرفة التي يعرفها بانها “ ليست مجرد نتاج لتقدم وإنما هي أيضاً - وهذا هو الأهم - وسيلة لإحداثه، وحتى يمكن استخدام المعرفة بواسطة البلدان النامية من أجل إحداث تنمية وتقدم وانتعاش مجتمعي، فإن هناك حاجة لاستيعاب المعرفة كحس، تماما كاستيعاب واستخدام حواس النظر واللمس والشم .. الخ. وفي استيعاب واستخدام الحس المعرفي تكمن إمكانات التغيير، ليس فقط في المنتجات والخدمات، بل أيضاً في الإدارة.”

ومن تعريفه للمعرفة ينطلق الكاتب لتعريف “ الحس المعرفي”، الذي يربط بينه وبين التقدم الذي عرفته علوم الرياضيات والحاسوب. ويعتقد الكاتب إن كان أمام “ ظاهرتين عظيمتين في مداولاتهما ونتائجهما (سلسلة التغذية المرتدة الثنائية بين العلوم البيولوجية وعلوم الكمبيوتر- تلاحم أنشطة البحث العلمي والإنتاج التجاري في اليوم والمكان).

ويتوقع الكاتب أن يكون لهاتين الظاهرتين “ نوعان من الآثار المترتبة ... تتعلق بالقيمة المضافة”.

وفي هذا النطاق يرصد بشيء من التفصيل “الآثار المعرفية المتوقعة”، ويدرجها على النحو الآتي: “

- التوصل إلى معارف متقدمة ودقيقة بخصوص الأنساق الجديدة المتناهية في الصغر داخل جسم الكائن الحي وخصوصاً الإنسان The very minute subsystems

- التوصل إلى النماذج الرياضية الأمثل Optimum mathematical models للعمليات البيولوجية في الجسم.

- اكتشاف الخواص الخطية للكثيرمن الظواهر البيولوجية التي ما زالت تبدو غير خطية، وكذلك اكتشاف حدود العلاقات البيولوجية غير الخطية لبعض الظواهر.

- التوصل إلى معرفة متقدمة نسبياً عن “التكامل” و “المثالية” في الإنسان البيولوجية Biological Systems.

- انعكاس “التكامل” البيولوجي و “المثالية” البيولوجية على العلوم الرياضية بمعنى حدوث تقدم متسارع في العلوم الرياضية نتيجة اكتشاف علاقات على مستوى عال من المثالية “كماً وكيفا” داخل الجسم البيولوجي”. ولا يحصر الكاتب نفسه، على رغم ضيق مساحة الكراس، في الجوانب التقنية والعلمية، بل ينطلق، في إطار سعيه لبلورة رؤيته المستقبلية لإدارة المعرفة، نحو الجوانب الاجتماعية. في هذا السياق نراه يحاول وضع نحو من التصور الجديد لمفهوم الطبقة الجديدة البديلة لتلك القديمة. ويستنتج الكاتب “ أن الطبقة العاملة التقليدية تندثر بسرعة وأن الحاجة إلى العمالة الماهرة تقل تدريجياً ونستنتج أيضاً أن العلماء والمهندسين (أي القائمين على البحث والتطوير والتطبيق التكنولوجي) هم الطبقة العاملة الجديدة (البروليتاريا الجديدة) في الزمن المقبل بمعنى أنهم يحلون محل الطبقة العاملة من حيث مكانتهم في العملية الإنتاجية (حيث هم الركيزة الأساسية للقيمة المضافة) والتي يحققونها بالاستخدام المنظم لعقولهم (وليس لسواعدهم).”

ويحذر الكاتب من الهوة التي ستتسع بين الشمال والجنوب من جرّاء مثل هذا التحول الاجتماعي الذي يستدعي تحاشيه من خلال “ أولا: بذل جهود عقلية عميقة ومثقفة بالدراسات العلمية من أجل فهم مايجري الآن في العالم من تطور المعرفة وسياسات العلم والتكنولوجيا والمتغيرات الهيكلية والسوسيولوجية في الإنتاج الصناعي واقتصاداته. ثانيا: إدراك أن الأمن القومي في المستقبل يتوقف على ما ينبغي أن نحصل عليه من الآن من ركائز علمية وتقانية. ثالثا: التجهيز العلمي والتعليمي والتربوي لمرحلة ما ستكون فيها المعرفة هي الإنتاج، والإنتاج هو المعرفة، وستشط فيها قوة العمل من العلماء”.

ويستخلص الكاتب من كل ذلك أن “الفاصل بين الزمن الحالي والزمن المقبل يكمن في السيطرة على أدوات المعرفة وآليات تطورها، كما نجد أن امتلاك هذه الأدوات والآليات هو الجواز الوحيد للمرور من مصيدة العبودية الجديدة في زمن مقبل في الطريق ولن يتأخر كثيراً”.

عنوان الجزء الثاني من الباب الثاني في الكتاب هو “إدارة المعرفة... ومستقبل الوطن”. ويرى الكاتب أن “ قضية الإدارة (ستكون) واحدة من أهم المشكلات التي تواجه الدول الأدنى تطوراً الساعية إلى التنمية والتقدم”.

ويميز الكاتب بين ثلاث مراحل من مراحل العلاقة بين المعرفة والإدارة عرفتها المجتمعات البشرية خلال القرن الماضي: “المرحلة الأولى تميزت بأن منتج (بكسر التاء) المعرفة هو في ذات الوقت مديرها، حتى لوكان هناك حاجة إلى تعامل مع مؤازرة من جهة ما مثل معهد أو مصنع أو إدارة حكومية. ثم جاءت المرحلة الثانية التي تميزت ببدء إستفادة الإجارة من المعرفة العلمية... (وقد) بدأت المرحلة الثانية في البزوغ كنتاج لنشأة فرعين جديدين من المعرفة العلمية خلال الأربعينيات وهما “السيبرناطيقا” و”بحوث العمليات” ولم يكن من قبيل المصادفة أن شهدت الأربعينات والخمسينات بدء بزوغ الجودة كمفهوم وقيمة أخذت في الانتشار والتطور حتى بدت كأساس لمعظم التطورات الرئيسية اللاحقة في الإدارة. ومن قلب العولمة حدث ويحدث منذ أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات التحول إلى المرحلة الثالثة في العلاقة بين المعرفة والإدارة. إنه التحول إلى مرحلة “إدارة المعرفة” وباختصار نقول إن الإدارة قد تحولت من مجرد مجال يستفيد من المعرفة إلى مستوى فوقي يتحكم فيها”.

وكم كان بودنا لو خاض المؤلف في بعض تفاصيل العلاقة بين العولمة وإدارة المعرفة، لكنه اكتفى هنا ببعض الإشارات المهمة لكنها كانت في غاية العمومية بحيث لم تعط الإستطراد المتوخى.

ومن العولمة ينتقل الكاتب مباشر لتناول موضوعة التفكير العلمي ومستقبله. وبعد أن يؤكد “ أن التفكير العلمي يعتبر وسيلة رئيسية لفهم وحل المشكلات وللتنبؤ ، وهو- كوسيلة- يقوم على الملاحظة الجيدة للمعطيات والظروف الخاصة بالمشكلة محل التفكير ووضع الفروض المناسبة لحلها. نراه يسارع إلى إنهاء هذا الباب بفقرة في غاية الجمال والدقة تقول: “ علينا أن نقر بضرورة التغلب على عقبة تمثل الحجاب الحاجز ضد التفكير العلمي. إنها عقبة السلطة والتسلط، سلطة وتسلط البيروقراطية .... سلطة وتسلط الرجل على المرأة سلطة وتسلط الباحث التابع... إلخ”.

ويطالبنا الكاتب بالوصول إلى “مرحلة استيعاب واستخدام وتطويع التكنولوجيات الجديدة في تجسيم التفكير العلمي في تطبيقات الإنتاج والخدمات... عندها فقط نطمئن إلى المستقبل”.

ويلتقط الكاتب نقطة سلبية مهمة تسود التفكير العربي وتسيطر عليه. تلك هي التجزيئية إذ يعتقد الكاتب “إن التجزيئية في مجتمعاتنا العربية عيب متغلغل في مختلف المستويات (الإقليمية والوطنية) ويظهر كذلك في انفصال الفكر عن الفعل .. هذا التفشي في انتشار التجزيئية مرتبط بالكثير من الظروف التي تستحق التناول التفصيلي، لكن أهمها هو “اختفاء التفكير العلمي السليم في الممارسة اليومية لحياة الإنسان العربي “وليس المقصود هنا هو تحول كل العرب على علماء.. بل القصد أن التربية والتعليم والإعلام لم تتمكن بعد من طبع الإنسان العربي في حياته اليومية على مبادىء التفكير العلمي في زمن صار فيه المنهج العلمي في التفكير هو أساس كل تقدم في أي مجال.

ما يلفت النظر في هذا الكراس المكثف هو طرق مؤلفه لبعض القضايا المستقبلية المهمة لكنها ليست واردة في قاموسنا التنموي أو الاقتصادي. ففي باب “نحو ميزان للتكنولوجيا نرى الكاتب يطالبنا بأن نضع تصوراً في منظومة تفكيرنا الذهني ينطلق من “تصميم إطار مرجعي مرن Frame of reference يكون بمثابة ميزان يتم من خلاله تصنيف وتقويم وتنظيم أية أطروحات تكنولوجية بهدف تحويلها من مستوى الحديث والحكاية والرؤية إلى مستوى النظام والتأثير والبناء، تماما كما تتحول الموجة الأثيرية إلى صوت أو المغناطيسية إلى حركة أو الكهرباء إلى ضوء. إن وجود إطار مرجعي أو ميزان في هذا الشأن يؤدي ليس فقط إلى تعظيم العائد الفعلي من الأطروحات الخاصة بالتكنولوجيا، بل أيضا إلى ترشيد الجهود والتوجهات الخاصة بتقديم أفكار جديدة”.

ولا يدع الكاتب القارئ تائهاً بل يأخذ بيده ويرسم معه معالم “الطريق إلى عبور التخلف ومنافسة المتقدمين”. فبعد أن يؤكد أن “تمثل الفجوة المتزايدة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب الوصف العام لمشكلة التخلف والتقدم في النصف الثاني من القرن العشرين، وإذا كان الاتساع المتزايد للفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية أمراً واقعاً ؛فإن هناك أمراً واقعاً آخر يعد في تقديرنا أكثر أهمية من مشكلة الفجوة بالإضافة لكونه يتناقض معها، ألا وهو “اطراد التقدم العلمي والتكنولوجي”?

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 1575 - الخميس 28 ديسمبر 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً