العدد 1575 - الخميس 28 ديسمبر 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1427هـ

تراجع السلطنة وتصدع جبل لبنان

بلاد الشام تدخل عصر دول الطوائف (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

صراع الدروز والموارنة على جبل لبنان لا يمكن فهم تعقيداته من دون قراءة توازن القوى الدولية والإقليمية في المنطقة. فهذا الصراع المحلي الدموي الذي تغلف بالطائفية والمذهبية كان نتاج تلك التحولات العامة التي طرأت على موقع السلطنة وتراجع نفوذها. كذلك يعطي الصراع فكرة عن خريطة التحالفات التي تشكلت وتبدلت وتنوعت خلال أكثر من ثلاثة قرون، حين انتقلت بلاد الشام من العهد المملوكي إلى العثماني ثم المصري ثم من جديد الى العثماني وأخيراً الأوروبي.

بداية تشكلت تحالفات سياسية جديدة حين انتصر العثمانيون على المماليك وفرضوا سلطتهم على بلاد الشام ومصر في العامين 1516 و1517. ففي هذه الفترة تعاون الأمراء المعنيون مع الوافد الجديد وتحالفوا معه واستفادوا منه في تعزيز سلطتهم المحلية في الجبل بالتعاون مع آل جنبلاط. ثم انهار التحالف المعني - العثماني حين حاول الأمير فخر الدين الثاني تأسيس «دولة» مستقلة بالتعاون مع أهم إمارة أوروبية في أيامه (توسكانا) ونجح بداية في كسر الجيش العثماني في مواقع عسكرية ثم انهزم واعتقل وحكم عليه وعلى عائلته بالإعدام. وبسبب انقراض الوريث الشرعي للأسرة انتقلت الزعامة السياسية من الأمير أحمد المعني إلى ابن أخته بشير الشهابي الأول، ثم بشير الشهابي الثاني الذي دخل في صراع على قيادة الجبل مع بشير جنبلاط.

أدى هذا التنافس الشهابي - الجنبلاطي المحلي إلى توليد صراعات وتأسيس تحالفات نجح الأمراء الشهابيون في توظيفها لمصلحة تثبيت سلطتهم على الجبل. وتصادف الأمر مع حملتين الأولى فرنسية قادها نابليون، والثانية مصرية قادها إبراهيم باشا.

في الحملة الأولى حاول بشير الشهابي التلاعب في تحالفاته بين الجنرال الفرنسي ووالي عكا (أحمد باشا) ولكنه نجح في ترتيب علاقاته مع الوالي العثماني بعد فشل بونابرت وتراجعه عن بلاد الشام. وحين توفي أحمد باشا وخلفه عبدالله باشا طور الأمير الشهابي علاقاته معه بقصد الانتقام من منافسه الجنبلاطي ونجح في التخلص منه في العام 1825، أي قبل 5 سنوات من بدء الحملة المصرية التي نجحت في الاستيلاء على عكا وتسليم عبدالله باشا مفاتيح المدينة إلى إبراهيم باشا في 1832.

خلال فترة الوجود المصري في بلاد الشام تعاون الأمير الشهابي مع قوات إبراهيم باشا كذلك فعل الموارنة ودفع أمراء الدروز الثمن. وحين انقلبت التحالفات الدولية وأخذت أوروبا تدعم السلطنة وساعدتها على طرد القوات المصرية من بلاد الشام تبدلت الأحوال وأعيد خلط الأوراق فخرج بشير الشهابي الثاني من الجبل ليعود التوتر السياسي مجدداً تحت سقف دولي - عثماني أسهم في توليد صراع درزي - ماروني على الزعامة المحلية. ولكن أساس التدافع الطائفي كان يعكس ذاك الصراع المصلحي الذي أخذ يتشكل في المنطقة ويوتر العلاقات بين أوروبا والسلطنة. فالتوتر تطور تحت سقف عودة العثمانيين إلى بلاد الشام حين بدأ النفوذ الأجنبي يتسلل إلى المجموعات الأهلية وينسج معها علاقات خاصة ومستقلة عن مظلة السلطنة.

بعد خروج مصر من بلاد الشام ستشهد المنطقة دورة جديدة من العنف ولكنها ستتميز هذه المرة عن سابقاتها بأنها ستشكل ذريعة للتدخل الأجنبي. وهذا التدخل المباشر في الشئون المحلية (الأهلية) للمجموعات الطائفية/ المذهبية في بلاد الشام سيكون بداية لمرحلة جديدة من «التدويل» وخطوة زمنية كانت ضرورية تمهيداً لظهور ما يسمى «النخبة الشامية» التي ستلعب دورها المميز في صوغ الفكر العربي المعاصر (ايديولوجية القومية العربية) الذي أخذ يشق طريقه من تحت جمر ورماد اقتتال الدروز والموارنة الذي امتد على مساحة الجبل الصغير نحو 20 سنة.

انقسام جبل لبنان

ليست مصادفة أن ينمو دور «النخبة الشامية» مع الصراع الأهلي (الدرزي/ الماروني) في جبل لبنان. فالنخبة ظهرت من خلال تصدع العلاقات المحلية التي انفتحت فجأة على فضاءات دولية أخذت تتنافس في كسب ود الطوائف وإقامة صداقات مميزة مع المذاهب. روسيا القيصرية مثلاً ادعت أنها مكلفة بالدفاع عن مصالح طائفة الروم الأرثوذكس بحكم تبعيتها للكنيسة الروسية. وفرنسا ادعت أيضاً أنها مكلفة بحماية مصالح طائفة الموارنة (الكاثوليك) استناداً إلى المعاهدة التي وقعتها مع السلطان العثماني في العام 1536 ثم جددتها في العام 1802. وبريطانيا تذرعت بأنها على صداقة مع الدروز وادعت حماية هذه الطائفة ورعايتها. فكل دولة كبرى آنذاك وجدت في طائفة معينة نقطة ارتكاز للتدخل في جبل لبنان. وأدت هذه التدخلات إلى نوع من التدويل للأزمة التي عصفت بمنطقة صغيرة ولكنها سياسياً شكلت نافذة للضغط على الدولة العثمانية.

آنذاك كانت السلطنة تعاني ضغوطاً مختلفة أسهمت في زيادة ضعفها واتكالها على «الخارج» لحماية مواقعها في مناطق نفوذها. فالسلطنة التي خسرت الجزائر لمصلحة فرنسا، ثم خسرت مصر التي استقلت بها أسرة محمد علي بعد تلك الصفقة التي عقدها ابنه إبراهيم إثر انسحابه من بلاد الشام، ثم خسرت الجزيرة العربية بعد تأسيس الدولة السعودية الثانية في العام 1843، وجدت نفسها من جديد تواجه حملة روسية عسكرية في منطقة القرم. هذه الحملة التي اشتدت في العام 1853 أضعفت اسطنبول مجدداً إذ وجدت السلطنة نفسها مضطرة إلى طلب المساعدة من الدول الأوروبية الكبرى. والدول الأوروبية رفضت تلبية نداء النجدة من دون ثمن وتقديم تنازلات سياسية.

وتحت سقف المقايضة تدخلت فرنسا وبريطانيا لمصلحة السلطنة فأعلن التحالف الثنائي الحرب على روسيا وأنزل قواته في منطقة القرم وانهزم جيش القيصر في سلسلة معارك جرت في البحر الأسود وحوض الدانوب واضطر إلى الاستسلام في العام 1856.

إلا أن حرب القرم أنتجت توازنات دولية جديدة ضغطت بقوة على السلطنة وأضعفتها في مواجهة حركات الانفصال (الاستقلال) التي أخذت تنمو مستفيدة من تلك التنازلات التي اضطرت اسطنبول إلى تقديمها. فالباب العالي توجه إلى باريس بعد نهاية حرب القرم ووقع اتفاقات في المؤتمر الدولي تعهد فيها بالمساواة بين رعايا السلطنة وعدم التمييز بين المواطنين، كذلك وافق على إعطاء الدانوب حكماً ذاتياً واعتبار البحر الأسود منطقة محايدة.

وفي إطار هذه الأجواء الدولية المضطربة كانت فرنسا نجحت في العام 1854 في اقناع خديوي مصر سعيد باشا بالتوقيع على مشروع حفر قناة السويس وهذا ما أغضب بريطانيا معتبرة أن السلوك الفرنسي يستهدف الإضرار بالمصالح البحرية البريطانية وسيطرتها على المنافذ البحرية والتجارة الدولية. وشكل التوقيع المصري على شق قناة السويس نقطة تحول في العلاقات الدولية ورفع من نسبة التدخلات الخارجية في شئون المنطقة التي ستدخل الآن طوراً متقلباً نتيجة ضعف السلطنة وانحسار دورها وازدياد تنافس الدول الكبرى.

آنذاك كانت القوى العظمى تتوزع على سبعة مراكز تشمل روسيا القيصرية، وامبراطورية النمسا - المجر، وبروسيا الألمانية، وإيطاليا، وفرنسا وبريطانيا والسلطنة العثمانية. وشكل تنافس وتحالف هذه الدول محاور سياسية للصراع. فكانت العلاقات الدولية زئبقية (لزجة) في تحالفاتها وتنافساتها، إذ تتوافق هذه مع تلك في منطقة وتختلف معها في أخرى. ولكن التحالف والتنافس كانا دائماً يزيدان من نمو أوروبا ويرفعان من قوتها مقابل تراجع موقع السلطنة وضعفها بسبب حاجتها إلى الخارج واتكالها عليه مقابل تنازلات متواصلة تقدمها إلى الأجنبي في هذه المنطقة أو تلك.

في ظل هذه الأجواء الدولية العاصفة اندلع الاقتتال الأهلي في جبل لبنان. فالتصدع الذي حصل في هذا الجبل الصغير يعكس في النهاية ذاك التصدع الكبير الذي أخذ يضرب السلطنة من الدانوب والبحر الأسود في شرق أوروبا وجنوب روسيا إلى مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام والجزائر. فكل هذه الحلقات مترابطة وكانت السلطنة تضعف كلما خسرت حلقة من السلسلة وصولاً إلى تلك الحرب الأهلية الطائفية التي اندلعت بين الدروز والموارنة في العام 1860. وهو العام الذي اعتلّت فيه صحة السلطان عبدالمجيد وبدأ ينازع في لحظة كانت فيها السلطنة تدخل شفير الإفلاس؛ بسبب انفاقها المالي على الحروب وعدم قدرتها على تسديد القروض الأجنبية.

شكلت حرب الدروز والموارنة ثغرة جديدة في قلب السلطنة في بلاد الشام. فالجبل اللبناني يعتبر - على رغم صغره - نقطة جغرافية استراتيجية تشرف على ساحل المشرق العربي وتطل على الداخل العربي. وشكل هذا الموقع جاذبية سياسية للدول الكبرى للتدخل فأقدمت بريطانيا على تأييد الدروز مقابل دعم فرنسا الموارنة، وانتهت المعارك الداخلية إلى نجاح الدروز في تسجيل انتصارات عسكرية، ما أغضب فرنسا فدعت الدول الأوروبية إلى الاجتماع بهدف تدويل الأزمة والتدخل مباشرة لحسم الموقعة لمصلحة الموارنة (الكاثوليك). وهكذا كان، إذ أرسلت الدول الأوروبية قواتها البحرية والبرية واحتلت جبل لبنان وساحله مدة نصف سنة وقامت بتوجيه ضربات قوية إلى الدروز وجردتهم من أسلحتهم وأسست دولة عرفت بـ «المتصرفية» تشرف عليها أوروبا وترعى شئونها بموافقة من السلطنة.

تحت سقف التدويل المترافق مع ازدياد تصدع السلطنة عاش جبل لبنان فترة استقرار ضمن إطار دولة شبه مستقلة وإدارة ذاتية (متصرفية) محمية من أوروبا وتعتبر في الآن قطعة أرض تابعة شكلياً إلى السلطان العثماني. وبسبب هذه الخصوصية السياسية تشكلت في جبل لبنان نواة نخبة مثقفة استفادت من هذه الرعاية الدولية التي قدمت المساعدات والمنح والخبرات. إلا أن مشكلة هذه النخبة كانت الطائفية، إذ تكونت ونمت في إطار تشققات أهلية أسهمت لاحقاً في إطلاق مدارس فكرية متقلبة وغير موحدة في رؤيتها وغير متفقة في هويتها «القومية» وسلوكها الاجتماعي/ الثقافي. فالنخبة الشامية ولدت مشوهة ونهضت سياسياً على قاعدة أزمة ثقافية قللت من دائرة التفاهم على هوية موحدة للدولة الجديدة. وهذا التعارض تأسس أصلاً على انتماءات طائفية/ مذهبية ستلعب دورها لاحقاً في تأسيس هويات سياسية تتراوح بين الإسلامية (العثمانية) والعربية (القومية) والكيانية (اللبنانية)?

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1575 - الخميس 28 ديسمبر 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً