خرج الشيخ من ضيق الدنيا ودخل إلى رحاب الخالدين، فهو شخصيّة انتزعت لنفسها العروج فوق التصوّرات البشرية. وتتبع درجةُ خلود الرجال درجةَ مواقفهم في خدمة القضايا الخالدة، التي ترتبط بالقيم الإلهيّة والمبادئ الإنسانية، من التقوى والنزاهة والعدل والأخلاق والكرم والوفاء والصبر والتسامح والدفاع عن المظلوم وكرامة الوطن، وأخيراً التضحية بالنفس من أجل تحقيق هذه القيم والمبادئ كلّما تعرّضت لخطر حقيقي. هذه القضايا هي محك الامتحان إذ تتصادم الإرادات، إرادة الإنسان في صِدامه مع هواه ونفسه الأمّارة بالسوء، وإرادته في صِدامه مع إرادات الآخرين وأهوائهم ضمن دوّامة الصراعات التي تعيشها المجتمعات البشرية بناءً على سُنّة الابتلاء وقانون التدافع. ولهذه الحقائق فإن المواقف التي يتخذها الإنسان المبدئي سوف تكلّفه، لا محالة، الكثير من جهده وماله وراحته وعافيته وأعصابه وأهله واستقراره وسمعته... ولكنّ الإيمان الأصيل يصلّب عود المؤمن مادام قلبه مطمئناً بالإيمان. وإذا استقام على نهجه لن تهزّه عواصف الحوادث، بل كلّما اشتدّت عليه الرياح زادت مقاومته وصمد في وجه التحدّيات واستهان بالمصائب، مصداقاً للآية الكريمة: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (آل عمران: 173). وفي الإسلام لا تنفصل العقيدة عن مجريات الحياة وحقوق الإنسان وعملية التطوير المدني، فالمؤمن في الرؤية الإسلامية يجب ألا ينفصم عن رسالته أبداً، وهي الرسالة التي تفرض عليه صناعة المواقف المرضيّة عند الله. فهو يتحرّك ونظره نحو الأعلى في جميع الغايات من إيمانه، فـ «الإيمان عملٌ كلّه»، والمواقف التي يصنعها مفتوحة على كل القضايا العلمية والاجتماعيّة والسياسية والمعيشية. وفقيدنا العلاًمة المجاهد الصابر والوطني الفذّ والشاعر والخطيب الحسيني الشيخ عبدالأمير الجمري (أعلى الله مقامه)، كان صاحب قضيّة كافح لها عمراً مديداً، صنع فيها مواقف بالكلمة المفوّهة والكلمة المكتوبة والمشاركة الميدانية والجلسات التوجيهية، وتحمّل الأذى في السجون وصبر على ما جرى لأهله وأقاربه من أزمات معروفة قبل الانفراج السياسي في البلاد، فارتبط اسمه بالقضايا الوطنية وملفات المواطنين والضعفاء منهم خصوصاً للإرتقاء بالوطن والدين والقيم.
دعاء المدرّسي
كان الشيخ الجمري واعياً للزمان الذي عاشه، وعمل وفق أجندة الشريعة الإسلامية، ينتقل من مرحلة إلى مرحلة وهو على بصيرة من أمره. ولعلّي أذكر موقفاً لأوّل مرّة للنشر، كنت في العام 1996 مع السيّد هادي المدرّسي بين ضغط الطائفين حول الكعبة المشرّفة، فسمعته وهو أمامي يدعو (اللهمّ فرّج عن الشيخ الجمري. اللهمّ سلّمه وأهله وشعب البحرين. اللهمّ أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)، وكان يكرّر في دعائه طلب الفرج للشيخ مرّات. وهذا الموقف فسّرته يومذاك بأن السيّد المدرسي أرفع من خلافات الرأي التي لا تخلو حركة وجماعة منها. والمهم هو التسامي بجناح الأخلاق فوق الخلافات التي تنضج لو أدرناها بالأخلاق أيضاً.
وكذلك كان الشيخ الجمري (ره) لمّا كنت أزوره، يسألني عن صحّة السيّد المدرسي وأخباره وآخر مؤلفاته، ويقول: أبلغه سلامي الحار. وكنت ومازلت أتطلّع لتوحيد الصفّ بأكثر من هذه الصدقيّة، وألا نترك للاجتهادات السياسية تأكل من ديننا وتؤثر على أخلاقياتنا. وأحببتُ مواقف الشيخ النضالية منذ كنت في المهجر، لم أترك مسافراً إلى البحرين حتى أحمّله سلامي إليه وتحيّاتي الحارّة، وقد ردّ سلامي إذ كان من أوّل من زاروني عند رجوعي للوطن (2001) بعد زيارة العلاّمة الشيخ عيسى أحمد قاسم. وإذا كانت لقاءاتي بالشيخ عيسى قاسم أكثر في قم المقدّسة، إلاّ أنّ علاقتي بالشيخ الجمري اتخذت طابعاً آخر على رغم قصرها بسبب انتكاسته الصحيّة. فهو لمّا زارني بالمحرّق دار بيننا حديث عن الشجون السياسية والهموم الدينية، وقدّم لي ديوانه الشعري «عصارة قلب»، فعصر بشخصيّته المتواضعة قلبي الذي نبض بحبّه في المهجر حتى كبُر في عيني! فتحت الصفحة الأولى من الكتاب فوجدت مكتوباً بخطّ أنامله الشريفة بتاريخ (4/9/2001): «بسمه تعالى هدية تقدير لسماحة الأخ المجاهد الشيخ عبدالعظيم المهتدي دام ظلّه مع تحيات الشاعر عبدالأمير). وقد أخجلني بهذه الكلمات التي لم تكن إلاّ تعبيراً حقيقيّاً عن أخلاقه الرفيعة. فأخذتني هذه الأخلاق الطيّبة إليه، وقد زرته في مجمع السلمانيّة الطبي مقبّلاً جبهته قبل شهر من رحيله. وقبل ذلك زرته في منزله قبل إصابته بالجلطة، وقد أخذني فيها إلى حوزته وعرّفني بأقسامها. وكنّا كثيري الحوار بشأن العمل المشترك لعلماء البحرين، وما حملناه من مشروع تأسيس «المجلس العلمائي الموحّد». وذات مرّة ناقشنا سبل الإصلاحات الداخلية وترميم الماضي في العلاقات البينية. واتفقنا أن نجلس بحضور بقية العلماء الأفاضل، فجلسنا مع أربعة من العلماء في منزل المرحوم السيّد كاظم العلوي في باربار أواخر سنة (2001) لمناقشة المشروع الوحدوي لرموز الساحة، فلم نخرج من الجلسة بنتيجة، مع قناعتنا أن المجلس الذي يضمّ رموز الأطراف، واجتماع العلماء الكبار تحت سقف واحد وتبادل الرأي في شئون الناس، من شأنه اجتماع الناس مع بعضهم، وعدم ذهاب طاقاتهم إلى محرقة الخلافات الجانبية.
رؤية المستقبل
وطرحت ذات مرّة على الفقيد الراحل أن نؤسس الطريق للحفاظ على مكاسب النضال الشعبي الذي أنتج الوضع الحالي، وللانتقال إلى وضع أفضل، فإن المكاسب تزول لو لم نفكّر بجمع الطاقات وتوجيه الكفاءات ضمن برنامج متعدّد الأبعاد يحتضن الجميع، وأن نهتم بشكل أساسي بمبدأ إصلاح ذات البين، لأن الخلافات تقتل كل مكسب. وهو كلامٌ أكرره اليوم إذا أردنا الحفاظ على آثار الفقيد (قدّس سرّه) من فكر وفعل ومن موقف وتضحية وأهداف إسلامية ومبادئ وطنية. لقد رحل العلاّمة الجمري على جناح الخالدين، ولكل راحل مثله آثار من علم ينتفع به الناس وصدقة جارية وولد صالح يدعو له، بل وشعب من ورائه، فلابدّ للجميع أن يتعاونوا لحفظ آثاره الحسنة، فالحركة الإسلامية وتضحيات الشعب أمانة في رقاب الجميع وليست ملكاً لجماعة دون أخرى، ولابدّ من المشاركة في صناعة القرار على هذا الصعيد كما نطالب السلطة بذلك على الصعيد الآخر. فنحن نحتاج لبعضنا بعضاً، فالمسير طويل، والطريق شائك، والقرآن يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (آل عمران: 200)?
العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ