ماذا تحمل معها السنة الميلادية الجديدة من أنباء؟ هناك إجابات كثيرة وغير متوافقة في تحليلاتها واستنتاجاتها بسبب اختلاف القراءة بين الأطراف نتيجة اختلاف الزوايا في الرؤية والمشاهدة.
وبناء على التضاد في النظر إلى تضارب الأمور يمكن تلخيص القراءات في تيارات ثلاثة.
الأول يرى أن الظروف الدولية بدأت بالانقلاب على السياسة الأميركية. وبالتالي فإن الولايات المتحدة دخلت مرحلة التراجع وبدأت العد العكسي بعد فترة غضب شهد العالم خلالها هجمات عسكرية على أفغانستان والعراق وأخيراً لبنان وكلها باءت بالفشل أو انتهت بتسجيل أهداف محدودة وأقل من التوقعات. وبسبب هذا الفشل يستنتج هذا التيار سلسلة احتمالات تبدأ بالتراجع عن احتلال العراق ومغادرة أفغانستان وترك الساحة اللبنانية مفتوحة على الفوضى والتخبط وربما أيضاً تقديم تنازلات في الشأن الفلسطيني يضمن لـ «إسرائيل» بعض الاستقرار.
يعتمد هذا التيار في رؤية توقعاته على مجموعة قراءات ترتكز على معلومات صحافية منها مثلاً أن أوروبا أخذت تستقل نسبياً عن المظلة الأميركية وبدأت تبحث عن مصالحها في دائرة ليست بالضرورة متطابقة مع سياسة واشنطن الدولية. ومنها أيضاً أن روسيا نجحت في السنوات الأربع الأخيرة في استرداد حيويتها وسجلت نجاحات اقتصادية أعطتها فرصة لتسديد ديونها ووفرت لها قواعد عمل للنشاط الداخلي والانطلاق نحو الخارج في سياق لا ينسجم كثيراً مع الرغبات الأميركية. إضافة إلى العاملين الأوروبي والروسي يستند هذا التيار إلى مجموعة تحولات أخذت تشهدها القارة الجنوبية (اللاتينية) وبدء ظهور مواقع يسارية تمانع التسلط الأميركي وتتحدى ذاك السلوك التقليدي الذي دأبت إدارة بوش على ممارسته. كذلك ظهرت في وجه السياسة الأميركية سلسلة اعتراضات تتوجت بظهور كوريا الشمالية دولة نووية في جنوب شرق آسيا الأمر الذي هدد نفوذ الولايات المتحدة في منطقة حيوية تجارياًَ وتعتمد دولها كثيراً على الحماية الأمنية الأميركية.
لا يقتصر هذا التيار في تحليله على رؤية المشاهد الخارجية للسياسة الأميركية وإنما يذهب إلى تناول أزمة واشنطن من الداخل. فالرئيس جورج بوش انهزم في معركته مع الحزب الديمقراطي وهو لابد أن يقدم التنازلات لخصمه التقليدي وخصوصاً حين يتسلم مقاليد إدارة جلسات الكونغرس في العام المقبل. فالرئيس بوش لم يعد يتحرك في ساحة خالية من الرقابة والنقد وهو بات أسير المتابعة اليومية وخصوصاً أن دافع الضرائب (الناخب) وصل إلى حال من القنوط من كثرة ترداد واشنطن لتلك المقولات البائخة التي تكرر الكلام عن المخاطر الخارجية وشبكات الإرهاب وضرورة الاستمرار في سياسة الحروب لمنع الهجمات التي تمس أمن المواطن وحريته واستقراره. فهذه الكلمات فقدت تأثيرها السحري وباتت محكومة بجملة حسابات تتصل بالعجز في الميزان التجاري وإفلاس الموازنة وعدم القدرة على تغطية المزيد من الحروب.
يستند هذا التيار إلى مجموع هذه التحليلات، وهي صحيحة في جوهرها، ليستنتج بأن الولايات المتحدة على قاب قوسين من الهزيمة وإعلان الإفلاس في شقيه المالي والسياسي. وبناء على هذه الرؤية العامة يرى أن لا حرب أميركية بعد اليوم وأن الولايات المتحدة تبحث عن مخارج سياسية للهروب ولا تفكر بتاتاً بالهجوم على إيران وهي في موقع ضعيف إلى درجة أصبحت تطلب المساعدة من سورية لترتيب تفاهمات تقلل من خسائر واشنطن في ساحات العراق ولبنان وفلسطين.
إلى جانب هذا التيار تقف في الجهة المقابلة وجهة نظر مضادة تقرأ الحوادث في سياق مختلف ولا تذهب بالتحليل إلى حده الأقصى. فالتيار الثاني يرى أن الظروف الدولية تغيّرت فعلاً ولكنها لم تصل إلى حد انقلاب قواعد اللعبة. فالقواعد برأيه لاتزال ثابتة في محاورها الاستراتيجية والعامة ولكنها أخذت تتغيّر في بعض الزوايا من دون أن يعني ذلك أن الولايات المتحدة انهزمت أو أنها باتت على قاب قوسين من إعلان إفلاسها المالي والسياسي.
ينطلق هذا التيار من تحليل يعترف بوجود فشل في إدارة الصراع ولا يقلل من خطورة ما يحصل من تداعيات في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ولكنه لا يستنتج من المعلومات الميدانية قراءة جديدة للاستراتيجية الأميركية في السنة المقبلة. فهذا التيار يرى أن السياسة تقررها المصالح الكبرى ولا تتغيّر جذرياً بين كونغرس يتولى إدارته الجمهوري وآخر يسيطر عليه الديمقراطي. فالمصالح في النهاية تمسّ الدولة وما تعنيه من شركات ومؤسسات ولوبيات (مافيات) تتصل بالأمن القومي والاستقرار الاقتصادي ورفاهية المواطن. حتى ان هذا التيار لا يعير اهتمامه كثيراً لتلك التوصيات التي وردت في تقرير بيكر - هاملتون، حتى انه لا يكترث لتلك التعديلات الوزارية أو الدبلوماسية أو العسكرية التي أطاحت بأبرز وجوه تيار «المحافظين الجدد». فكل هذه المتغيرات لا تقدم ولا تؤخر في وجهة نظر هذا التيار لأن السياسة الأميركية العليا تقررها مجموعة شروط تتجاوز كثيراً آراء الحزب الديمقراطي واختلافها عن ايديولوجيا الجمهوري. وبناء على هذه التحليلات يرى التيار المذكور أن السياسة الأميركية لن تتغيّر مادامت قادرة على التفاهم مع الاعتراضات الأوروبية والروسية وبالتالي فهي تملك إمكانات كثيرة تساعدها على التكيّف مع المستجدات وإعادة تدويرها بالشكل الذي يخدم المصالح العليا.
وبناء على هذه الرؤية العامة يرى هذا التيار أن الولايات المتحدة لم تُهزم ولا تعترف بالإفلاس وهي لاتزال تملك من الأوراق والإمكانات ما يكفيها لشن المزيد من الحروب وتطويع نقاط الاعتراض والممانعة وتجديد المبارزة في ساحات العراق ولبنان وفلسطين.
وجهة نظر ثالثة
بين التيارين الأول والثاني هناك وجهة نظر ثالثة تقرأ التحولات الجارية على الأرض وفق رؤية مركبة. فهي لا توافق على وجود هزيمة ولكنها تعترف بظهور أعراض الفشل في الكثير من الحقول والساحات. ويتوقع هذا التيار أن تقوم الإدارة الأميركية بإجراء تعديلات كثيرة في توجهات واشنطن الدولية، كذلك ستلجأ إلى اتباع مناورات ستغيّر بعض قواعد اللعبة من دون أن تقلبها رأساً على عقب. فواشنطن خلال السنوات الخمس الماضية اخترقت كل التقاليد الدولية وتصرفت بأسلوب منفرد وأحادي الجانب ولم تحترم مصالح الدول الكبرى وأطاحت بالكثير من المعادلات والاتفاقات والتفاهمات مع أوروبا وروسيا والصين وتعاملت مع الحلفاء والقوى الإقليمية بمنطق القوي المنتصر الذي لا يحتاج إلى المساعدة. وأدى هذا النوع من التعالي على الواقع وموازين القوى إلى إضعاف قدرات واشنطن وتعطيل حركتها الدبلوماسية وإفشال خطواتها السياسية بسبب نمو تحالفات أحبطت كل محاولات توظيف النجاحات العسكرية في الميادين التي قررت منازلتها.
كل هذه الأمور انعكست سلباً على الاستراتيجية الأميركية إذ تشكلت في مواجهتها قوى اعتراض تملك قدرات سياسية وعسكرية ولوجستية تعطيها إمكانات دبلوماسية للتصدي سواء على مستوى الاستقرار الدولي أو على مستوى استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وبناء على هذه التحولات يرى التيار الثالث أن إدارة بوش تعلّمت واستوعبت الكثير من الدروس وباتت في موقع لا يسمح لها بالتشاوف والانفراد والتفرد بالقرارات الدولية وعدم الاكتراث لقوانين الأمم المتحدة وتوازن المصالح ووزن روسيا وموقع أوروبا في المعادلات الإقليمية.
التيار الثالث يستخلص من قراءة المتغيّرات مجموعة تحولات لن تقلب الطاولة وإنما ستعمد إلى تحسين شروط اللعبة من خلال التفاهمات الدولية في مجلس الأمن واحترام توازن المصالح وأخذ القوى الإقليمية في الاعتبار وعدم تجاهل أوروبا بل إشراكها كطرف مسئول في تحمل نتائج كل خطوة مقبلة. وهذا ما بدأ يظهر على الشاشة الدولية في أكثر من مكان وجهة. فمثلاً أخذت واشنطن تبدي بعض الليونة في تعاملها مع دول أميركا اللاتينية التي انقلبت ضدها. كذلك اتجهت نحو مجلس الأمن ودول جنوب شرق آسيا لمعالجة ملف كوريا الشمالية النووي عن طريق التفاوض أو المقايضة. كذلك أعطت دول مجلس الأمن مهلة أكثر من مئة يوم لبحث موضوع العقوبات على إيران بشأن مشروعها النووي. وأيضاً رفعت من نسبة اتصالاتها ومشاوراتها وجولاتها مع دول «الشرق الأوسط» وبدأت تعطي أولوية لتحسين علاقاتها السياسية مع أطراف إقليمية تتمتع بمواقع أو بأدوار وتتميز بتأثيرات على الكثير من المجموعات الأهلية في المنطقة. وهذا الأمر ظهر بوضوح من خلال اعتماد واشنطن على قوة إثيوبيا الإقليمية لتصفية معاقل المحاكم الإسلامية في الصومال.
أميركا إذاً وبحسب رؤية التيار الثالث لم تتغيّر استراتيجياً ولكنها أخذت تتكيّف مع معادلات الواقع حتى تكتسب مناعة بدأت تفتقدها بسبب استهتارها وعدم تقديرها لموازين القوى الدولية ودور القوى الإقليمي في المساعدة أو التغطية أو التحصين. لذلك وبناء على هذا التحليل لا يستبعد هذا التيار لجوء واشنطن من جديد إلى اعتماد سياسة القوة تحت سقف الشرعية الدولية وحماية مصالح الحلفاء الإقليميين وضمان أمنهم واستقرارهم.
هناك كثير من القراءات تسيطر على فضاءات العام الميلادي المقبل، إلا أن ما ظهر حتى الآن من علامات وإشارات يدلّ على بدء اتباع واشنطن سياسات مرنة دولياً وإقليمياً لمصلحة تمرير استراتيجية لا تقلّ تشدداً عن السابقة?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ