أصحيح أننا نمر في طور مرحلة «دمقرطة» ربما كنا نلجها للمرة الأولى ولو عبر فجوات انغلاق مفتوحة؟ أصحيح مرة أخرى أننا نعاصر مرحلة تحول استراتيجية من خلال بوابة مشروع إصلاحي، ما يعني ويشير إلى وجود حالة فساد قائمة ومقيمة؟
إن كانت الأجوبة على السؤالين الحاضرين بالإيجاب، فهذا يعني أننا بصدد الحديث عن موقع أغلى ذخيرة نمتلكها في مملكة الحرية والمساواة، وكنزها الثمين الذي لايزال جزءاً غير ضئيل منه في وارد الإخفاء والحجب، وإن كنت لا أعني بهذه الذخيرة والكنز إلاّ ما يتعارف عليه بـ «الذاكرة الوطنية» أو «التراث الوطني» في صيغته وصبغته الأكثر حميمية، أو ربما «التاريخ» في مسماه الأكثر رحابة واتساعاً ومهابة.
وإن كنا بصدد الحديث عن «ذاكرتنا الوطنية» أو «تراثنا الوطني» أو قل التاريخ، فإنه لابد أولاً من تحديد غرض التجرؤ في سبر أغوار هذه الحقول الغبراء البالغة التلغيم في سياق الكلام عن «الدمقطرة» أو «الدمقرطة»، وربما مضافاً إليها اللفظ المحبب إلى الإجماع الوطني، وهو «المشروع الإصلاحي»، الذي وكما أسلفنا لابد أن يكون مضيفاً لما قبله، وسيكون غرضنا من كل تلك المناقشة التاريخية هو التطرق إلى وتيرة المنهجية التي من خلالها يتم من خلالها تدوين الحوادث التاريخية وإثراء الذاكرة الوطنية.
المنهجية وإن كانت بلاشك في جزء كبير منهجية تقليدية مصمتة لا يزيد مستوى رؤيتها للتاريخ عن كون الأخير لا يعدو أن يكون مستودعاً للجثث، أو ببلاغة أكثر شطوحاً هو بيت الفناء، أو أن هذه المنهجية التاريخية لا تتعدى في ممارستها عن التدوين الأجوف لمجرد التدوين، وكأنما التاريخ للمؤرخ محصور في تدوين الحوادث التاريخية المتعاقبة والأسماء والتواريخ فيما يشبه مرة أخرى الكتابة على شواهد القبور، وإن كانت هناك قدرات حقيقية وعروق ملتهبة للإبداع في كوامن الكثير من الكوادر الثقافية المحلية إلاّ أنها للأسف لا تتفجر إلاّ في الحقول ذاتها التي أوشك أن يقتلنا شبهها الكبير بالصحاري والسبخات، ألا وهي حقول التأريخ لـ «الأنساب الكريمة»، وسير «الوجهاء الأفذاذ الجهابذة»، و»السلاطين الأسخياء» و «الأعلام الكرام»، وفي كل الأحوال تكون الرواية التاريخية المعطاة هي تلك الرواية الرسمية المجاد بها من عرق المطابع الحكومية التي تكرس تخليد مقولة «التاريخ يكتبه المنتصر»، هذا مع استثناءات هامشية قليلة.
لذلك، فإننا وفي سياق تذكّر الحركة العالمية للتيار التأريخي النقدي الذي ازدهر في الستينات من القرن الماضي، وتبناه عدد من المؤرخين المحترفين براديكالية حيوية تناهض السلطة الفجّة للرواية الرسمية المستبدة الواحدة التي تعدم ما دونها وما سواها من روايات ومن أبرزهم المؤرخ الأميركي هوارد زين، وهذا التيار، أي تيار كتابة (التاريخ من أسفل/ History from below) يعد في حد ذاته مدرسة معطاءة ساهمت في تحدي مقولة «التاريخ يكتبه المنتصر»، وأبت الخضوع لعسف وطغيان الروايات الرسمية في كتابة التاريخ، وخصوصاً الحوادث التاريخية البارزة التي لاتزال مثيرة للجدل. كما أنها ولأجل تلك الغاية أضاءت بجهود أبنائها من المؤرخين المعارضين الجوانب المظلمة والأركان القصية المنسية، وخصوصاً منها ما يقع في أسفل القاعدة والمعمار الاجتماعيين، ومنها تواريخ الأقليات والطبقات الاجتماعية والفئات المهمّشة، مع تدفق جهود المؤرخين والباحثين إلى ميادين القادة المنتصرين والمشاهير العظماء والوجهاء الأسخياء!
ولعله من الأنسب لو طرحنا عدداً من الأسئلة عن مدى جدية السلطة المختصة والمعنية بإعادة فتح أبواب الذاكرة الوطنية من جديد وتحريرها من القيود والأغلال الرقابية المسكوت عنها، التي لاتزال ترسف بها، وتقتل بالتالي كل محاولة للإبداع والغربلة، أو حتى لخلق مصالحة حقيقية بين ماض وحاضر، ومطابقة تامة بين هوية وهواية!
وعلى رغم وجود بعض المؤلفات القيمة لكتاب بحرينيين بالإمكان أن تدرج ولو مقاربة في أطر هذا التيار المعاكس، فإن السؤال لايزال يطرح ويدق نفسه بالقوة والسخونة ذاتها، هل هناك أية إمكانية لكتابة تاريخ البحرين من الأسفل، بالالتفات إلى المهمّشين والمنسيين، فلاحين وغواصين وعمالاً كادحين، وجنوداً مجهولين في معارك بناء الوطن وبناء ذات المواطنة الدستورية؟
وحتى لا نتهم باستنطاق الحجارة وسقاية الرمم يمكننا التيسير من عسر المهمة لنقول: هل هناك إمكانية لأن يفتح الواقفون في الأعلى تاريخ وسجلات الواقفين في الأسفل من الدرك البحريني الحضاري؟
نرجو ألا نتهم مرةً أخرى، بتهمة أخرى قد تكون إزعاج المارة والقراء بـ «الأذان في خرابة»، وذلك في الوقت الذي تسجل فيه وزارة الإعلام في سجلات مآثرها موقفاً تراجعياً تاريخياً عن أبسط شروط المرحلة التقدمية، بمنع كتاب المناضل الراحل عبدالرحمن الكبير، هذا الكتاب الذي لم يختلف اثنان على مضامينه الوطنية الرائعة والإشادة بدروسه الغالية في التضحية لأجل مصلحة الوطن والمواطن، فكيف لو كان الأمر يتعلق بكتابة التاريخ من أسفل، إذ قد تزعج آلات الحفر والتنقيب في بطون التاريخ القصية مضاجع معلقة في السقوف؟?
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ