يلاً ما أكتب مرثية في من اختاره الله إلى جواره من الأحباء والأصدقاء إلا ما ندر، وهم الذين كنت أكثر التصاقاً وقرباً منهم فعرفت عن كثب ما جبلوا عليه من صفات وخصال إنسانية كريمة. وأذكر أن من هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا قريبين جداً من نفسي رئيس تحرير صحيفة «الأضواء»و «أخبار الخليج»،المرحوم محمود المردي ، فقد عملت لديه عملاً إضافياً في الجانبين الثقافي والصحفي، ابتداء من صيف 1968 ولعدة سنوات. كما رثيت أستاذي الشاعر والأديب إبراهيم العريض، وكذلك وزير التربية السابق الشيخ عبد العزيز الخليفة، الذي عرفته أولاً في القاهرة، ثم زادت معرفتي به في البحرين بعد ذلك. وهكذا فقد ربطتني بهؤلاء الأصدقاء الراحلين صداقات طيبة وعلاقات حميمة، ووجدت نفسي الآن مدفوعاً للكتابة عن فقيد البحرين العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري، على رغم أن علاقتي به كانت عابرة.
فقد عرفته لأول مرة عضواً نشيطاً وبارزاً في المجلس الوطني في ديسمبر/كانون الاول 1973 إلى العام 1975 حين حل المجلس بعد معارضته الشديدة وصحبه من النواب على قانون «أمن الدولة» طيب الصيت والذكر. كما عرفت أيضاً الشيخ الجليل عيسى أحمد قاسم. كان هذان الشيخان يستقطبان اهتمام الحضور من زائري المجلس الوطني، وأنا واحد منهم بصفتي موظفاً في وزارة الإعلام آنذاك. هؤلاء وغيرهم يتابعون ما يدور في جلساته من نقاش ساخن حول كثير من القضايا المهمة وعلى رأسها تلك التي تتعلق بهموم الناس ومشاكلهم الحياتية. وكان الشيخ الجمري (عليه رحمة الله) يرأس لجنة الخدمات ويتعاطى مع قضايا الناس، ويتفاعل معها بما عرف عنه من اهتمام وحيوية ونشاط.
كنت أحضر جلسات المجلس كلما دعت الضرورة، وغالباً ما أكون مرافقاً لبعض الصحافيين العرب والأجانب، وقد رافقت في إحدى الجلسات الصحافي اللبناني المرحوم سليم اللوزي، الذي كان آنذاك رئيس تحرير مجلة «الحوادث» اللبنانية ذائعة الصيت. كما رفقت أيضاً رئيس تحرير مجلة «الأسبوع العربي» اللبنانية ياسر هواري، إلى جانب صحافيين آخرين. ومن النواب الذين أحببت الإصغاء إلى طروحاتهم في المجلس النائب جاسم محمد مراد وعبدالعزيز منصور العالي لمداخلاتهم اللطيفة والساخرة. ومن الجلسات المثيرة للاهتمام بما أحدثته من لغط كثير ونقاش كبير استجواب وزير الصحة السابق علي فخرو، بشأن ضرورة أن يكون الذين يشرفون على ولادة النساء في البحرين طبيبات وليس أطباء رجال، وكانت وزارة الصحة آنذاك تعاني من نقص حاد في هذا الميدان. كما طرح أيضاً على جدول أعمال المجلس الوطني آنذاك مشروع الاختلاط بين الجنسين في مدارس البحرين، ولاقى معارضة شديدة من سائر الأعضاء. وأنا في بكين أمارس عملي الدبلوماسي العام 1992 علمت أن مبادرة كريمة من الشيخ الجمري ومجموعة من رموز المجتمع الديني والوطني، ومنهم الشيخ عبد اللطيف المحمود، تقدّموا بعريضة تطالب بعودة الحياة النيابية التي علقت في 1975، ولم تلاقي هذه المبادرة الاستجابة الرسمية المطلوبة. وأعقبها في نوفمبر/تشرين الثاني 1994 تقديم عريضة ثانية تضمنت الطلب نفسه، وأخبرني الشيخ المحمود أن مبادرة الشيخ الجمري وصحبه قد لاقت الاستجابة والاستحسان والتقدير من قطاعات واسعة من شعب البحرين، بدليل تلك الآلاف المؤلفة من المواطنين الذين وقعوا عليها، وأن الشيخ عبداللطيف نفسه كان من أوائل من وقع على هاتين العريضتين الشعبيتين، وقد أتت أكلهما في السنوات اللاحقة.
وكانت هناك حركة أحرار البحرين في تلك الفترة، وكان منصور الجمري نجل الشيخ الجمري هو الناطق باسمها، وكان يقيم آنذاك في المهجر بلندن، وكان شقيقه الأكبر (محمد جميل) يقبع في السجن داخل البحرين. وأنا في تونس في العام 1997 أمارس عملي الدبلوماسي، كنت أتابع باهتمام في أكثر من فضائية عربية مقابلات منصور الجمري، وعندما أصبح رئيس تحرير «الوسط» أصبحت من كتابها وزادت علاقتي به، وحضرت عدة ندوات في مجلس والده الملازم لفراش المرض. وعند كل لقاء أبادر بسؤالي عن صحة والده، فيقول أنه عانى من جلطات عدة وهو الآن طريح الفراش لا يستطيع حراكاً. وكنت أتوق إلى رؤيته لما سمعت عنه من اتسامه بالأخلاق الحميدة، ولم أتبين طبيعة هذه الجلطات وما خلفته على صحته إلاّ عندما قرأت أخيراً مقابلة مع طبيبه محمد الدرازي الذي أشرف على علاجه منذ عودته من رحلة العلاج في ألمانيا في يونيو/حزيران 2002 حتى وفاته. وأذهلني عندما ذكر أن الفقيد أصيب بجلطتين في الدماغ، وكان يعاني من عاهة دائمة وعدم القدرة على الحركة والشلل النصفي. وكل هذا أدى إلى تدهور صحته تدهوراً كاملاً. إن الشيخ الجمري شخصية دينية ووطنية محببة لدى جميع المواطنين، حزنت لأنه قد غادرنا بعد انقشاع السحب وانبلاج فجر الانفراج والانفتاح السياسي الذي ننعم بثمراته اليوم. وعلى الرغم من قتامة الأوضاع أحياناً وضعف الرؤية وانبثاق الميثاق الوطني، كان الشيخ الجمري متابعاً في تلك المرحلة على رغم اعتلال صحته، وخضوعه للإقامة الجبرية التي فرضت عليه، ومنعه من استقبال زائريه باستثناء حالات تقبل العزاء. إلاّ أنه بعد اعتلاء جلالة الملك حمد الحكم رفعت عنه الإقامة الجبرية واستقبل زائريه ومحبيه في مجلسه بكل حرية. رحم الله الفقيد برحمته الواسعة وألهم ذويه وأهل البحرين جميعاً، الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون?
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ