المؤشرات الحسية واضحة وهي تقترب من الحسم العسكري إذا لم يتدارك العقلاء في اللحظة الأخيرة دفع هذه الحرب المدمرة إلى بعيد. والسنة الجارية تلفظ أنفاسها الأخيرة نجد أن هناك أصواتاً تقربنا من الحرب التي لا يريدها أحد، إلا أن الحوادث تأخذنا إليها وبسرعة من الدفع الذاتي لا يستطيع أحدٌ أن يتقيها، فهي تبدو وقد استحوذت على الميكانيكية الخاصة بها.
المؤشرات تعتمد على اثنين واضحين، الأول هو التوجه لإصدار قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على إيران تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو القرار الذي تم التلكؤ بشأنه لفترة طويلة من الزمن، والبند السابع يعني قمة الجدية في تطبيق القرار والسير به نحو نهاياته المحتومة، إذ يعرّض الدول التي لا تطبقه إلى عقوبات، وقد يتيح استخدام القوة.
والمؤشر الثاني هو دخول عمارة حربية ضخمة تابعة للولايات المتحدة وتتبعها بريطانيا إلى الخليج، عبارة عن حاملات للطائرات وبوارج وكاسحات ألغام، في عرض للقوة العسكرية غير مسبوق منذ ثلاث سنوات على الأقل إبان الإعداد للحرب على العراق.
الأدبيات الأميركية والغربية بشكل عام تبرر هذا الحشد وذلك الإصرار على اتخاذ قرارات حاسمة من عدد من الزوايا، أولها أن إيران في سياساتها الحالية هي مربط الفرس في الاضطراب الحاصل في المنطقة، على الأقل هذا ما يؤمن به كثير من المحللين والسياسيين القريبين من البيت الأبيض ومن مقر رئاسة الحكومة البريطانية وبعض الدوائر الغربية.
ويشار غالباً إلى أن إيران بجانب طموحها في الحصول على السلاح النووي الذي قد يغير جذرياً من توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط ويعطيها نفوذاً واسعاً في مجالها الحيوي، هي ليست كباكستان، تحتاج إلى الرادع النووي لأسباب خاصة بها، بل هي تتوق إلى ذلك النوع من التسليح من أجل تأكيد النفوذ وإشاعة تصورها لنوعية الحكم المطلوب في المنطقة. فالثورة الإيرانية كونها ثورة لابد أن تجاهد لتصدير ما تؤمن به، فهي كما يقول أحد المعلقين كراكب الدراجة، إن توقف عن تحريك قدميه توقفت الدراجة وسقط راكبها على الأرض! فوق ذلك فإن الشكوى من أن إيران تضغط بشدة من جهة أخرى على «الديمقراطيات الناشئة» في المصطلح الغربي، وهي الديمقراطيات في لبنان وفلسطين والعراق.
حقاً أو باطلاً ترى الدوائر الغربية أن إيران تحت علم (مناصرة العرب ضد «إسرائيل») تتقدم بسرعة في نشر تصورها وتجد لها موضع قدم في كل المناطق الثلاث، بل وفي صفوف آخرين تحت غطاء سياسي، ليس بالضرورة مماثلين لها في المذهب، ولكن مناصرين لها في السياسة.
بناءً على هذا التحليل فإن كلفة تأمين السلم في الشرق الأوسط التي يتوجب أن يدفعها الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، وإن كانت كلفة باهظة مالاً ورجالاً، إلاّ أن التراجع أو التراخي في دفع تلك الكلفة السياسية قد تنتج عنه أضرار أكبر بكثير مما هو ظاهرٌ حالياً مالاً ورجالاً ونفوذاً.
تقرير بيكر- هاملتون الأخير الذي يبحث عن مخرج لتقليل مقاومة السياسة الأميركية، الذي وجد أمام اقتراحاته اصطفافات مختلفة داخل المنطقة، وفي أروقة المؤسسة الأميركية الحاكمة، والذي أشار إلى حكمة الحوار مع كل من سورية وإيران، وأهمية النظر إلى القضية الفلسطينية وذلك من أجل تخفيف الضغط على القوات الأميركية في العراق من جهة، وتقليل الاستقواء على الديمقراطيات الناشئة من جهة أخرى... هذا التقرير وجد في واشنطن من يقرأه قراءةً معاكسة، مفادها أن إيران هي صلب عدم الاستقرار في المنطقة لا غيرها من العواصم، ومتى ما طُوعت إيران بشكل ما لن يبقى لأي من العواصم أو الجماعات السياسية الأخرى ملاذ تلجأ إليه، إذ إن إيران هي صاحبة النفوذ المعنوي، وهي صاحبة «كيس النقد» الأهم في التمويل، وهي أيضاً صاحبة القول الفصل لمن يتبعها من قوى إقليمية.
بناء على هذا التحليل المبالغ فيه، الذي صاحبه تحليل آخر وهو أن كلفة التراجع الأميركي سواء في العراق أو في غيرها من المناطق، هي كلفة باهظة مالياً وسياسياً، ليس في الوقت الحالي ولكن أيضاً لعقود مقبلة، ولأن كل المحاولات التي تمت سياسياً لإيجاد مخرج أو باب خلفي لتخفيف المواجهة لم تجد لها آذاناً صاغية في نهاية المطاف، فإن العض على الأصابع عملية غير مجدية وتستنزف الطاقات، لذلك فالتوجه إلى أساس المشكلة من أجل التعامل معها تعاملاً جذرياً هو الأجدى.
لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف سيتم مثل هذا التعامل، إلاّ أن المؤكد أن مشروع القرار الأممي لحصار إيران وزخم تدفق العمارة العسكرية إلى الخليج، كل ذلك مقرون بصيحات تغير الاستراتيجية الأميركية والغربية التي سادت في الثلاث سنوات الأخيرة ينبئ للمتابع بأن شيئاً كبيراً يمكن أن يحدث، ومركز ذلك الشيء هو الخليج.
عودتنا إيران في ربع القرن الماضي على أنها تجيد المناورة وتستفيد من أخطاء الآخرين، ولكنها تقيم حساباتها على ميزان دقيق. لقد تخلصت من عدوين كبيرين في الشرق والغرب من حدودها، هما حكم «طالبان» المتشدد وحكم صدام حسين العدواني، وسقطت في كفها ثمرتان ناضجتان هما كابول وبغداد، كما استطاعت أن تقنع الشارع العربي بجديتها في الوقوف أمام الصلف الإسرائيلي، ليس بشكل مباشر ولكن بدعم واضح للممانعة العربية (الفلسطينية واللبنانية) عن طريق دفع المال والسلاح والتدريب. كما أنها تمدّدت في الجانب العراقي بسبب علاقاتها القديمة مع بعض أطراف المعارضة العراقية السابقة أو بسبب حاجة بعض القوى الجديدة العراقية إلى المساندة. إلاّ أن بداية العام الجديد ربما يشهد بداية تقلص امتداد النفوذ، وهو أمر طبيعي، فهناك دائماً حدود لاستمرار القوة والنفوذ لأية قوة، حتى لو كانت بمثل القوة الإيرانية.
المساحة الزمنية التي تفصل بين تراجع القوة والنفوذ الإيراني وبين الاستفادة القصوى ممّا تحقق من نفوذ، ستبقى عالقةً في يد متخذ القرار الإيراني، ولعل أول ما يمكن التفكير فيه هو مراجعة «الاستقواء على الديمقراطيات الناشئة» وخصوصاً في العراق ولبنان ومن ثم فلسطين، بالمساعدة في إيجاد مخارج محلية للأزمات.
لو تمّ هذا فإن الأطراف الداخلة في اللعبة الصعبة في الأشهر الأولى من العام المقبل يمكن أن تقلل الخسائر الهائلة المتوقعة من الصدام المباشر، فكلفة السلم هي أقل كثيراً من كلفة الحروب وأفضل مردوداً للشعوب، وخصوصاً إذا كانت حروباً مفتوحة على الزمن وعلى الأدوات المستخدمة فيها. وما على الأطراف الداخلة في اللعبة إلاّ النظر بعين حكيمة لما يمكن أن توفّره لشعوبها جرّاء التواضع في رسم الأهداف المرادة.
يبقى العرب والخليجيون الذين ستضطرم منطقتهم بحمم النار الممكنة على هامش التغييرات الكبرى التي ترسم?
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ