العدد 1571 - الأحد 24 ديسمبر 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1427هـ

الجمري... من وحي الرحيل

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

كثيرون عشقوا الراحل الكبير الشيخ الجمري، وكثيرون ردّدوا باسمه الهتافات وأنشدوا الأناشيد والقصائد البهيجة والحزينة على حد سواء، فلقد كان رجلاً بحجم الوطن والأمة. كان يحمل حلمه في الحرية والكرامة والوحدة الإسلامية والوطنية إلى أي مكان يذهب إليه، وكثيرة هي الأماكن التي ذهب إليها طلباً للتواصل والشراكة في هذا الوطن.

وعلى رغم أن حضور وهيبة الشيخ الراحل كانت من النوع الذي يزرع في قلب أي زائر الرهبة والتحفز والتوتر، فإن دماثة خلق الشيخ وتواضعه الجم، كان يزيل كل ذلك في لحظات، وقد أكسبته هذه الصفات الكثير من المحبة ورفعته إلى مكانة عظيمة لدى الكثير من مريديه الذين كانوا ينظرون إليه باعتباره النموذج والقائد الملهم.

الشيخ الجمري قدس سره الشريف، كان رجلاً من نوع خاص، لا يحتقر أحداً ولا يتجاهل أو يستصغر أحداً، وفي الوقت ذاته كان لا يهاب من أحد كائناً من كان، رجل جمع الفضائل والخصال الحميدة من جميع الأطراف، وأخذ بأسباب المجد بقوة إيمانه وصلابة إرادته وعزيمته التي لا تعرف الخوف والهلع، ولا تخضع للمغريات التي سال لها لعاب الكثيرين وانجر خلفها اللاهثون وراء المنصب والجاه.

الشيخ الجمري كان يجيد فن الإصغاء للآخرين، لكنه كان يجيد أيضاً فن تمحيص ما يعرض عليه فيفرق بين الغث والسمين، وكان يعرف قراءة ما بين السطور وما فوقها وما تحتها أيضاً، ومع ذلك لم يدع الشيخ فرصة سانحة للتشاور وتبادل الرأي إلا سار لها، ولم يترك باباً للحوار إلاّ طرقه. الشيخ الجمري كان من النوع الذي لا يصادر حرية الآخرين في إبداء آرائهم، ولا يحجب حقهم في الاختلاف، لكنه يكون قاطعاً بالقول والعمل حين يرى أحداً يحاول استغلال الفرص لتحريف المطالب الوطنية العادلة، وكان لا يتوانى عن الدفاع عن حقوق الشعب حتى في أحلك فترات حياته وأكثرها قسوة.

في الفترة التي فرضت عليه الإقامة الجبرية بمنزله، كان هناك من يريد أن يكسر إرادة شيخ المجاهدين، ويستفرد به ويدفعه إلى الاستسلام، مستغلاً مرضه وتداعيات السجن الانفرادي الذي تعرض له عدة شهور، محاولاً توظيف ما جرى له من مسرحية لإصدار حكم بسجنه عشر سنوات وتغريمه 15 مليون دولار، باعتباره المحرّض الأول على الانفلات الأمني، وما ترتب عليه من خسائر في الأرواح والممتلكات. لكن الشيخ الذي كان يحمل بين ضلوعه آلام الغلظة والشدة والقسوة التي عومل بها في السجن، والتي أدت إلى إصابته بعدد من الجلطات الدماغية الصغيرة التي بقيت من دون علاج، والمعاناة التي عايشها مع أمراض السمع والبصر، كان حاضر البصيرة متقد الفكر يعرف ألاعيب المحتالين والمتملقين، ولا تنطلي عليه حيلهم وأغراضهم. لذلك كان موقفه الرافض للانجرار وراء دعواتهم إلى الوقوف على أعتاب الجهات التي بالغت في الإساءة إليه وسعت إلى الانتقاص من مكانته وتهميش دوره الوطني الكبير، عبر تحويله إلى مجرد رمز مستهلك في زمن غابر. كان موقفه مع هؤلاء حاسماً لا يقبل التأويل ولا يقدم التنازلات ولا يرتضي المساومة.

لقد أنهكه السجن وأوهن صحته المرض، لكن إرادته كانت من حديد، وهنا لابد من تسجيل موقف تاريخي لعبه ابنه الأوسط صادق الجمري، الذي كان في هذه الفترة المحرجة من حياة الشيخ مثالاً للابن البار الذي وقف مع أبيه في أحلك اللحظات وأشدها قتامة حين كان كثير من الناس بمن فيهم المقربون من الأهل والأصدقاء لا يستطيعون التواصل مع الشيخ. لقد وقف الابن مواقف شجاعة ولم يقبل التخلي عن والده في لحظات الضيق والتهديد والوعيد، وكان ينقل إلى والده المجاهد كل ما يدور في الساحة من تطورات، ويقف حائط صد في وجه جماعات الضغط التي كانت تريد النيل من صمود الشيخ العظيم.

مسئولون كبار وشخصيات مجتمعية بارزة، كانت تتصل وتضغط من أجل أن يخطو الشيخ خطوة في اتجاهات معينة، يمكن أن تحتسب في صالح هؤلاء المسئولين أو تلك الشخصيات، لكن الموقف كان واضحاً، فلن ينتقل الشيخ إلى أي مكان ولن يقوم بزيارة أي كان في هذه الفترة التي تداخلت فيها الأشياء.

ومما لا يعرفه كثيرون، أن فترة الحصار الشديد على الشيخ الجمري ابان الإقامة الجبرية في منزله وعلى رغم صعوبتها وفظاعة الظلم فيها من بعض الذين لم يحسنوا قراءة المشهد يوم أفرج عن الشيخ في أعقاب الحكم الصادر ضده، فقد كان الشيخ فيها على رغم الألم الذي يعتصر قلبه وجسده المثخن بالأسى ومرارة السجن وظلمه، يحلق بروحه في عالم الصبر واليقين بأن يوم الفرج قريب. ولكنه مع ذلك كان على اتصال بعدد من الشخصيات التي وقفت إلى جانبه تشد أزره وتسانده على تخطي المحنة التي عايشها بأخلاق الأولياء وصبر الصالحين الذين يعرفون الله حق المعرفة ويؤمنون بأنه العادل القادر على إنصافهم.

لذلك فإن الانفراج الذي حدث في البحرين في بداية الألفية الثالثة للميلاد لم يفاجئ الشيخ الجمري، ولم يفقده البوصلة، فسرعان ما عاد إلى سابق نشاطه وحيويته وشرع في التحرك في كل اتجاه، بغية رأب الصدع وتقريب وجهات النظر بين فرقاء العمل السياسي من جهة وبينهم وبين الحكم من جهة أخرى.

الجمري كان مبادرة متحركة في كل اتجاه، ففي الوقت الذي كان يتواصل مع أركان الحكم من أجل تخفيف حدة التوترات والاحتقان والبحث عن سبل تعزيز التوافق في البلاد، كانت بصيرته منفتحة على التواصل مع شركاء الوطن من التيارات السياسية وأطياف العمل الوطني الأخرى على كل صعيد. لذلك كانت زيارته الشهيرة إلى جمعية الإصلاح في المحرق ولقاؤه رئيس الجمعية الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة وعددا من قيادتها وكوادرها، وجمعا غفيرا من أبناء البحرين الكرام الذين حرصوا على حضور ذلك اللقاء التاريخي، جسراً للتآخي والتواصل لبناء الثقة والمحبة، ولذلك لم يفوت الفرصة بأن يزور عبدالرحمن النعيمي، المناضل الكبير العائد من المنفى بعد غياب جاوز 30 عاماً في بيته بقرية عراد، يهنئه بسلامة الوصول ويمد له يد التعاون لمصلحة الوطن. الشيخ الجمري كان قطب الرحى في حركة العمل الوطني طوال عقد التسعينات من دون منازع، وكانت نظرته الثاقبة إلى الأمور ترسم طريقاً واضحاً للتعاطي مع مختلف المستجدات السياسية بروح القائد والزعيم التاريخي الذي وضع مصلحة دينه وشعبه وبلاده فوق كل اعتبار وقبل كل شيء.

لقد رحل شامخاً على رغم الألم والمرض والقهر الذي كابده، وكانت الجماهير البحرينية الوفية في وداعه إلى مثواه الأخير، تجدّد العهد معه وتخلده زعيماً وملهماً وطنياً وعالم دين من الطراز الأول، من العلماء المسلمين العاملين المجاهدين.

رحمك الله يا أبا جميل... وأسكنك الفسيح من جناته مع الأنبياء والأئمة والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً?

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1571 - الأحد 24 ديسمبر 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً