تم في المقال السابق استعراض ما ورد في تقرير التنمية البشرية للعام 2006 بشأن أزمة المياه المزدوجة التي سيواجهها القطاع الزراعي والمتمثلة في المنافسة على الموارد المائية وتغير المناخ العالمي، وفي هذا المقال الاخير المتعلق باستعراض التقرير يتم إلقاء الضوء على الموضوع الأخير الذي ورد في التقرير، والمتعلق بالصراع على الموارد المائية المشتركة.
يشير التقرير إلى أن الماء، كمورد طبيعي، يستعصى على القيود بامتياز، فالأنهار والبحيرات والمياه الجوفية تعبر الحدود السياسية دونما جواز سفر أو وثائق، وبأن هناك 145 بلداً تشترك بأحواض مائية مشتركة، أي مجمعات الأمطار أو أحواض الصرف المائية، بما في ذلك البحيرات والمياه الجوفية المشتركة بين بلدان متجاورة. وهذا العدد في ازدياد بسبب تفتت الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا السابقين، ففي العام 1978 كان يوجد 214 حوضا مائيا دوليا؛ وحالياً يبلغ العدد 263.
ويبين التقرير أن 90 في المئة من سكان العالم يعيشون في بلدان تشترك في مواردها المائية مع بلدان أخرى. ومن جهة أخرى، من المتوقع بحلول العام 2025 أن يزداد عدد الأشخاص الذين يعيشون في بلدان تعاني من إجهاد مائي إلى أكثر من 3 مليارات شخص، ما قد يؤدي إلى زيادة التنافس على هذه المياه المشتركة، ومن الممكن أن تتطور هذه المنافسة إلى نزاعات مسلحة. إلاّ أن التقرير يشكك في هذه التوقعات، ولا يرى أن التنافس المتزايد على موارد المياه سيؤدي بالضرورة إلى إثارة نزاعات مسلحة، ويبين أن التعاون عبر- الحدودي على الموارد المائية هو حالياً أكثر انتشاراً بكثير مما هـو مفترض بصفة عامة.
ويشير التقرير إلى أنه خلال الأعوام الخمسين الماضية، رصدت حوالي 37 حالة لجوء إلى العنف بشأن المياه، جميع تلك الحالات، ما عدا سبعة منها، في الشرق الأوسط، إلاّ انه على الجانب الآخر، تمت مفاوضات ومناقشات لأكثر من 200 اتفاق بشأن المياه خلال هذه الفترة. ويوضح التقرير أنه على رغم أن الاعتماد المشترك على المياه قد يثير التوتر السياسي عبر الحدود، فإن معظم الموارد المائية المشتركة تدار سلمياً من خلال الإدارة والدبلوماسية العابرة للحدود. ويعطي مثلاً حياً على ذلك بين الهند وباكستان، اللتين ظلتا منذ نصف قرن تديران الموارد المائية المشتركة من خلال لجنة المياه الدائمة لنهر السند، على الرغم من اندلاع حربين حدوديتين بينهما والتوتر الجغرافي السياسي المتواصل.
وعلى رغم هذه الملاحظة، فإن المياه المشتركة تظل جالبة لاحتمالات المنافسة، وتبدأ المشكلة عندما تكون المياه من الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية أو الأراضي الرطبة غير مدارة بطريقة مناسبة. فعلى رغم أن معظم البلدان لديها آليات مؤسسية لتخصيص المياه وحل الصراعات داخل حدودها، فإن الآليات المؤسسية العابرة للحدود أضعف من مثيلاتها داخل البلدان. ولذا فإن الإجهاد المائي وضعف المؤسسات المعنية بالمياه في الدول يحمل في طياته أخطاراً فعلية للنزاع.
ويركز التقرير على منطقة الشرق الأوسط، كمنطقة تتضح فيها علاقة المياه المشتركة بالنزاعات، بالإضافة إلى نقص المياه الحاد فيها، فإيران والعراق هما الدولتان الوحيدتان في المنطقة اللتان تقعان فوق عتبة الإجهاد المائي، و90 بالمئة من سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوف يعيشون في بلدان تعاني من نقص المياه بحلول العام 2025.
ويفرد التقرير للوضع في المناطق الفلسطينية المحتلة، التي يعاني فيها الفلسطينيون أعلى مستويات نقص المياه في العالم، إذ يبلغ عدد السكان الفلسطينيين نصف عدد سكان «إسرائيل»، ولكنهم يستهلكون من المياه بين 10-15 في المئة فقط مما يستهلكه «الإسرائيليون». وفي الضفة الغربية، يستخدم المستوطنون «الإسرائيليون» ما يقارب تسعة أضعاف لكل فرد ما يستخدمه الفلسطينيون. ويرجع التقرير هذا إلى سياسات الاحتلال الصهيوني التي تسيطر على مصادر المياه الفلسطينية بالقوة وتتبع قواعد غير عادلة لتوزيع المياه تقلل فيها من حصص الفلسطينيين المتاحة للاستخدام إلى أدنى المستويات، الأمر الذي يؤدي إلى إعاقة قدرة المزارعين الفلسطينيين على إنتاج الغذاء وكسب لقمة العيش.
وكما هو معروف، فإن الجانب الإسرائيلي رفض وضع موضوع المياه على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين في جميع مفاوضاته مع الجانب الفلسطيني كي تقوم باستخدامه كوسيلة للضغط على هذا الشعب المحاصر، حيث تنطلق عناصر الاستراتيجية الصهيونية (انظر كتاب «لبنان المياه والحدود»، عصام خليفة) من مسلمات في الشأن المائي، أبرزها التمسك ببقاء السيادة الإسرائيلية على مصادر الموارد المائية العربية، وبأن تأمين احتياجاته المائية يتوازى مع المتطلبات الأمنية، ورفض مفهوم السيادة الوطنية لأية دولة في المنطقة على ثروتها المائية، وبموجب ذلك لا بد من تزويد «إسرائيل» بموارد مائية إضافية، يوازيها تقييد استخدام العرب للمياه.
وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية في العام 1967 ملكية جميع مصادر المياه داخل فلسطين لدولة «إسرائيل»، كما قامت بإصدار الأمر العسكري رقم 158، الذي يمنع الفلسطينيين وحدهم من القيام بحفر آبار جديدة دون ترخيص من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني. كما قامت بتحديد استهلاك الفلسطينيين للمياه عن طريق تحديد نسب مفروضة على الاستخدام اليومي لهذه المياه، وتدمير مخازن المياه وسد الكثير من الينابيع والآبار، في حين لا يواجه المستوطنون اليهود أية قيود في استخدام المياه، وتدعم الحكومة الإسرائيلية المستوطن اليهودي فلا يدفع سوى 0,10 دولار لكل متر مكعب من المياه، في حين يدفع المواطن الفلسطيني 1,20 دولار لكل متر مكعب منها!
أما بالنسبة للمياه السطحية فيعتبر نهر الأردن أهم مصدر للمياه السطحية داخل فلسطين، وهو النهر الذي ينشأ جزؤه الشمالي في شمال فلسطين وهضبة الجولان المحتلة وجنوب لبنان ليصب في بحيرة طبرية. أما قطاعه الجنوبي فيستمد مياهه من الينابيع ومياه الأمطار داخل الضفة الغربية وكذلك من المياه السورية والأردنية، والتي يأتي أغلبها من نهر اليرموك. ومع ذلك لا تسمح «إسرائيل» للفلسطينيين باستخدام مياهه بأية صورة من الصور.
وعودة إلى التقرير الذي يشير إلى التعاون القائم بين الأردن و»إسرائيل» في مجال المياه في حل مشكلة المياه المشتركة، عندما وقعت «إسرائيل» مع الأردن العام 1994 اتفاقاً سمحت للأردن باستخدام بحيرة طبريا الإسرائيلية لتخزين المياه الشتوية الجارية. كما سمحت لـ»إسرائيل» بأن تستأجر من الأردن عددا من الآبار لسحب المياه لاستخدام الأراضي الزراعية. ويرى التقرير أنه كحال هذه الاتفاقية المائية بين «إسرائيل» والأردن التي ترافقت مع اتفاقية السلام بين البلدين، فإن التسوية السياسية النهائية بين «إسرائيل» والمناطق الفلسطينية المحتلة ستتطلب أن تتضمن ميثاقا حول مصادر المياه المشتركة بينهما.
وعودة للتقرير، هناك أربع عقبات رئيسية للتعاون عبر الحدود حول المياه المشتركة، وهي: الادعاءات المتنافسة بالمياه والضرورات المفترضة للسيادة الوطنية، وضعف القيادة السياسية والرؤية السياسية، وعدم التناظر في القوة، وعدم المشاركة في المبادرات الدولية المعنية بالأحواض المائية. وجميع هذه المسائل يجب معالجتها لتجنب النزاعات، وتقييد التدهور البيئي، والتحقق من استخدام المياه المشتركة لتعظيم فرص التنمية البشرية إلى الحد الأقصى.
ويرى التقرير أن إدارة المياه المشتركة قد تكون قوة للسلام أو للنزاع، ولكن السياسة هي التي تحدد المسار الذي يتم اختياره. ويحدد هدفين عامين في إدارة المياه المشتركة، وهما استبدال الأعمال أحادية الجانب بالتعاون متعدد الأطراف، ووضع الأمور المتعلقة بالتنمية البشرية، وليس القوة والسياسة، في مركز الحوار. ويتطلب هذا الابتعاد عن الادعاءات المتصلبة بالسيادة، وتعزيز القيادة السياسية، وإيجاد توازن أفضل للقوة. ويوصي التقرير بالتركيز على: 1- زيادة المفاوضات السياسية لبناء الثقة وتعزيز الشرعية، فالتعاون عبر الحدودي بشأن المياه يعتمد على رغبة الدول الواقعة على مجاري الأنهار بالمشاركة في إدارة الموارد المائية، وهنا يمكن أن يساعد الدعم الدولي على خلق بيئة ملائمة للتعاون الناجح؛ 2- تقييم متطلبات التنمية البشرية وتحديد المكاسب المشتركة المحتملة، حيث يتعين على القادة السياسيين تحديد الأهداف المشتركة للتنمية البشرية على مستوى الحوض المائي في مجال الحد من الفقر، وخلق فرص العمل، وإدارة المخاطر، وجعل ذلك جزءًا لا يتجزأ من التخطيط للحوض؛ 3- زيادة الدعم للمنظمات المعنية بالأحواض المشتركة، بما في ذلك توسيع اختصاصاتها وتعزيز قدراتها على فرض تنفيذ الاتفاقيات، حيث أنه مع تطور التعاون في الأحواض المائية، يتعين على القادة السياسيين أن يرفعوا مستوى التوقعات إلى مستوى ملائم من الطموح؛ و4- زيادة التمويل للإدارة المائية عبر الحدودية.
ويؤكد التقرير أنه على مر التاريخ كان التعاون بشأن الموارد المائية المشتركة هو القاعدة وليس الاستثناء، وبأنه مع ازدياد عدد الناس الذين يتنافسون على الموارد حالياً، فإن المقاربات الطموحة الأقل تشتتاً لإدارة المياه هي في صالح الأمن بعيد المدى للجميع?
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1570 - السبت 23 ديسمبر 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1427هـ