في الثمانينات من القرن العشرين، عندما كان الإجرام قد أصبح سائدًا بنسب مرتفعة في المدن الأميركية، تمَّ اختبار فكرة جديدة لإعادة القانون والنظام. فقد جمعت فكرة «الحفاظ على أمن المجتمع» عددًا من مختلف التكتيكات في إستراتيجية واحدة تمثّلت بتعيين شرطة الدوريات في الأحياء التي يعيشون فيها، إذ صاروا يمشون في الشوارع المعتادة أكثر، ويقودون سيارات الدوريّة أقل، ويصلحون النوافذ وأضواء الشوارع المكسورة. وأدَّى كلٌّ من هذه الإبداعات إلى شيء واحد ألا وهو أنَّ رجال الشرطة كانوا أكثر فاعلية في أحيائهم الخاصّة إذ تمكّنوا من التركيز على الاهتمامات الاجتماعية بشكل أفضل.
ومن المؤسف أنَّ سياسات هذا المثل الموازية للسياسة العسكرية والخارجية تتعرَّض للتجاهل في واشنطن. وتُظهر استطلاعات الرأي في الدول العربية والإسلامية وفي جميع الدول تقريباً، أعداداً متزايدة من الناس الذين تغضبهم بيانات السياسة الأميركية وسلوك الحكومة الأميركية وحتّى المواطنين الأميركيين. ولسوء الحظ، يبدو الوضع في سائر أنحاء العالم شبيهاً جداً بما كان عليه ذات مرّة في مدينة أميركية داخلية، وذلك عندما كان السود يخشون من أفراد قوى الشرطة البيض أكثر من خشيتهم من السفّاحين الذين يعيشون بجوارهم.
للوهلة الأولى، قد يستنكر الفرد أي تلميح بأن يكون لعمل الشرطة في مدن أميركا أية علاقة بالدبلوماسية الأميركية في الخارج. ومع ذلك، قد تكون هناك منافع وراء تخطّي الأمثلة الماضية من النجاح والفشل بدلاً من «الارتقاء» من الحيّ إلى الشرق الأوسط بأكمله، أي من ضربة شرطي الدورية في زاوية الشارع إلى غزو عبر الحدود بواسطة قوّة مهلكة، وهذا ما يؤيّد بعض الأميركيين حصوله لإيران.
فما هي العِبر من وجهة نظر شرطي اجتماعي؟
أولاً، قوموا بتجنيد مواهب محليّة - وطبعاً ليس فقط بصفتهم رجال شرطة إضافيين، بل كأصوات جديدة تزوّدكم بردود الفعل وتجيب عن أسئلة مثل: «ماذا يريد الناس منّا»؟ وإذا كانوا لا يريدوننا، فلتكن نقطة على السطر، ويحب أن نعلم ذلك الآن وليس لاحقًا. ومأسويًّا، فقد أخطأ رجال شرطة الدورية الأميركيون الذين يستخدمون سيّارات الهمفي العسكرية والذين قدّموا الحلوى باعتبارهم ابتسامات الأطفال ترحيبًا حارًّا من واحد والكل. ولقد أكَّد أحمد شلبي لواشنطن أنَّ العراقيين سيستقبلون الجنود الأميركيين بمشروبات باردة وورود.
نعم، جاءت تحذيرات غامضة من بعض القادة العسكريين الأميركيين بأن لديهم ستّة أشهر فقط لإصلاح الوضع في العراق، ولكنَّ هذه الستّة أشهر تمدَّدت لتصبح ثلاثة أعوام ونصف، ولايزال كبار الضّباط هؤلاء يمنحون أنفسهم ستّة أشهر أخرى وأخرى. ولم يقم الأميركيون أبداً بسؤال العراقيين العاديين، كيف يريدون هم «إصلاح الوضع».
وثانيًا، أنكروا علانيةً الروابط والتحالفات الفاسدة سواء كانوا أصحاب قوّة محليين يأخذون نسبة 10 في المئة إضافية على رواتبهم أم شركات أجنبية تطلب مبلغاً يفوق بدرجة هائلة مستوى العمل الذي تؤدّيه والحاجات الأساسية التي توفرها. ومن وجهة نظر فرد عراقي، إنَّ شركتي بشتل (Bechtel) وهاليبرتون (Halliburton) تتحدّيان السلطة عبر تغريم وزارة المالية العراقية بمبلغ 7 دولارات مقابل كل غالون بنزين يُنقَل عبر الحدود من الكويت إلى القواعد العسكرية الأميركية. وفي غضون ذلك، يكتفي العراقيون بتنشّق رائحة البنزين، إذ يمضون ساعات طويلة في انتظار دورهم أمام محطّات البترول الفارغة.
وثالثاً، أوقفوا بناء القواعد العسكرية المسلحة والسفارات ذات السطوح المزوّدة بالأسلاك. قوموا بالنظير الدبلوماسي لما قام به الجيش البريطاني في البصرة: اخلعوا نظّاراتكم الشمسية وقبّعاتكم وأظهروا أنفسكم لمستضيفيكم وأمثالكم من البشر. فعندما ينقطع تمويل المراكز الثقافية في الولايات المتحدة وتتوقف التبادلات الأكاديمية التي ترعاها وزارة الخارجية، كل ما يبقى من أميركا ليراه المصري الذي يتجوّل في مقاطعة «غاردن سيتي» الدبلوماسية في القاهرة هو السفارة الأقبح والأكثر تخويفًا في العالم.
ورابعًا، أصلحوا النوافذ المكسورة وخصوصاً إذا كان ذلك ما وعدتم بالقيام به. ففي بغداد، لم يتم إعادة التجهيزات الكهربائية والمائية إلى ما كانت عليه قبل الحرب. فكما تذكِّر النوافذ المكسورة بوجود شيء خاطئ في المدن الأميركية الداخلية، فكذلك تفعل مكيّفات الهواء التي لا تعمل في ظلّ حرارة تبلغ 120 درجة في العراق. وعندما يرى الناس في حي هارلم بنيويورك الأرصفة الوسخة فقط، في حين أنَّ القليل من محطات النقل في وسط المدينة نظيفة ومرتّبة، فهم يلقون اللوم على المحافظ بسبب عدم إرسال مكنسات خاصّة للشوارع إلى حيث يسكنون، وهذا بقدر ما يلقون اللوم على المحليين الذين يرمون النفايات في الأماكن العامّة.
وإنّها لمدعاة للسخرية أن يتمّ إرسال رئيس الشرطة السابق في مدينة نيويورك برنارد كيريك، وهو رجل ذو صلة بالأفكار الجديدة والمطوَّرة للشرطة الاجتماعية، إلى العراق ليكون ناصح بول بريمر، ولكن بدلاً من أن يأتي بالعبر الصحيحة المناسبة، فقد قام برحلة ذاتية شارك خلالها في مداهمات ليلية للقبض على المشتبه فيهم وتقييدهم أمام عوائلهم - وهذه جميعها أعمال تحذّر الشرطة الاجتماعية من القيام بها. وهذه باختصار هي المشكلة مع الدبلوماسية الأميركية، فالكثير ممّا تمَّ القيام به بشكل صحيح في مدنها الخاصّة حصل بعدم إتقان عندما قامت به في الخارج.
* كاتب أميركي، والمقال ينشر بالتعاون
مع «خدمة كومن غراوند»?
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1570 - السبت 23 ديسمبر 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1427هـ