«باقون في الخليج إلى فترة طويلة». هذا الكلام ردده وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت غايتس خلال زيارته الأولى إلى بغداد. فهذا الوزير الذي يعتبر من «المدرسة الواقعية» أشار إلى مجموعة مواقف لا تختلف في جوهرها عن تلك الآراء التي دأبت «المدرسة الايديولوجية» أو ما يعرف بتيار «المحافظين الجدد» على إطلاقها في السنوات الخمس الماضية.
ماذا يقصد وزير الدفاع الجديد في كلامه؟ أول الكلام أنه لا يفكر بالمغادرة ولا الهرولة ولا ترك المنطقة. وان المنطقة تستحق «المزيد من التضحيات» كما قال رئيسه جورج بوش في تصريحه الأخير. وآخر الكلام يعني أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن المنطقة التي كلفتها حتى الآن آلاف القتلى والجرحى وعشرات مليارات الدولارات.
من أول الكلام إلى آخره يمكن وضع ضوابط لإعادة قراءة المواقف الأخيرة في سياق موضوعي حتى نستطيع التوصل إلى تحديد مواصفات واقعية للسياسة الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط». فهذه المنطقة تتمتع بموقع استراتيجي في الجغرافيا السياسية إذ إنها تقع في وسط العالم وتربط آسيا بأوروبا (أورآسيا). وكذلك تحتوي هذه الدائرة الجغرافية على مخزون هائل من النفط والغاز يكفي الصناعات الغربية مدة تتراوح بين 40 و60 سنة ويشكل الأمر المذكور حاجة تمس الأمن القومي ومن الصعب التخلي عن هذا المخزون بسهولة. إضافة إلى النقطتين (الموقع الاستراتيجي والطاقة) هناك مشكلة موروثة تتصل بالإسلام (دين وحضارة وقوة بشرية) وهو يعتبر وجهاً من وجوه التحديات الثقافية والسياسية والتاريخية في الذاكرة الأوروبية (والأميركية لاحقاً) ولذلك ترى العواصم الغربية ومراكز القرار والأبحاث في الإسلام نقطة ضغط لابد من منع نهوضها مجدداً. مضافاً إلى هذه الاعتبارات والحاجات والتحديات يأتي موقع «إسرائيل» في المعادلة ودورها ووظيفتها ولذلك يحتل امن هذه الدويلة المزروعة في المنطقة العربية/ الإسلامية ذاك الهاجس الذي يؤرق الولايات المتحدة ويضغط عليها داخلياً لتأمين مكانتها الأمنية والاستراتيجية.
كل هذه العوامل تعتبر مداخل عامة لفهم تصريحات بوش وغايتس الأخيرة بشأن العراق ومحيطه الجغرافي/ السياسي. فالمسألة إذاً ليست بهذه البساطة ومن الصعب تفكيكها من دون الغوص في الأسباب والدوافع الحقيقية التي أملت على إدارة «البيت الأبيض» اعتماد سياسة «الضربات الاستباقية» وتقويض دول المنطقة وتهديد استقرارها بسلوك «الفوضى البناءة» وما أنتجه من تفكيك للعلاقات الأهلية والتشجيع على الانقسامات الطائفية والمذهبية. فسياسة «فرق تسد» تشكل واحدة من الضمانات الاستراتيجية للإبقاء على قوات الاحتلال والتذرع بالمشكلات والمخاوف لمنع اتخاذ قرار الانسحاب. فالانسحاب يعني في المقاييس الأميركية (الجمهورية أو الديمقراطية) هزيمة استراتيجية تطيح بكل تلك العوامل والاعتبارات والحاجات بينما «البقاء في الخليج إلى مدة طويلة» كما قال غايتس مكلف مالياً وبشرياً ولكنه يبقى الخيار المفضل أمام هزيمة كبرى.
بين الهزيمة الاستراتيجية والكلفة المحسوبة يمكن قراءة كلام غايتس في محاولة لفهم المقصود من هكذا تصريح. فوزير الدفاع أراد وضع حد للنقاش الدائر الآن في واشنطن بالنسبة الى مصير القوات الأميركية في العراق والمنطقة والاستراتيجية الجديدة التي وعد بوش بالإعلان عنها في مطلع السنة الميلادية المقبلة. فالوزير الجديد وجه رسالة واضحة تؤكد وجهة نظر لا تختلف كثيراً عن سياسة وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد. كذلك أوضح موقفه من تلك التوصيات التي أوردها تقرير بيكر - هاملتون. والموقف منها أنها تشكل وجهة نظر غير ملزمة للإدارة وهي تأتي في سياق مراجعة للاستراتيجية ولكن الاستراتيجية الجديدة ليست بالضرورة أن تكون متطابقة مع تلك الأفكار والاقتراحات التي أوردها التقرير.
ماذا يريد؟
الخلاصة إذاً أن القوات الأميركية «باقية في الخليج إلى فترة طويلة». إلا أن الخلاصة لا تعطي فكرة عن سيناريو البقاء والانتشار والتموضع والتراجع والتقدم. فالكلام عام ويقال عادة في المناسبات لرفع المعنويات وتثبيت المواقع. ولكن التفصيلات هي في النهاية تحدد قوة الكلام أو ضعفه. والإعلان عن «البقاء إلى فترة طويلة» لا يقدم ولا يؤخر لان الأسئلة الحقيقية تتركز على نقاط صغيرة مثل: إلى متى باقية؟ وأين ستبقى؟ وما هي مهمات القوات؟ وكيف ستتعامل مع متغيرات إقليمية ومحلية؟ ومن هي القوى التي ستعتمد عليها لضمان استمرارها؟ وكيف ستنظم علاقاتها مع قوى نامية ترفض وجودها؟ وهل ستكتفي القوات بوجودها العسكري أم أنها ستعمل على تشجيع مشروع سياسي يلبي طموحاتها في المستقبل؟ وهل سيكون هذا الوجود «الطويل الأمد» مجرد مراقبة عسكرية للتحولات الجارية في المنطقة أم أنه سيتطور إلى لاعب سياسي يؤثر على التوازنات؟ وهل سيتدخل هذا الوجود الدائم بشئون المنطقة ويعمل على تقويضها من الداخل أم يأخذ صفة الحياد ويتابع ويسجل الملاحظات ويدون الحوادث في دفتر التاريخ؟.
أسئلة وأسئلة وأسئلة وكلها تطرح جملة تصورات لم يأت على ذكرها غايتس في جولته التفقدية وتصريحاته الاستباقية. مثلاً من سيقوم بتمويل هذا «البقاء»؟ وأين ستقيم تلك القوات ومن ينفق عليها ويتعامل معها؟ وماذا سيكون دورها في حال تداعى الموقف في العراق ولمصلحة من ستتدخل؟ وفي حال امتد نموذج العراق الذي وعدت واشنطن بتصديره إلى شعوب المنطقة كيف ستتصرف تلك القوات المتموضعة في «الشرق الأوسط»، وما هو السلوك المتوقع منها لاحتواء سلبياته وردود فعله؟
يمكن وضع عشرات الأسئلة على طاولة غايتس إلا أن لا فائدة منها مادام سلوك واشنطن تتحكم فيه مجموعة اعتبارات وحاجات وتحديات تتصل بعناوين كبرى من نوع المركز الاستراتيجي للموقع العربي/ الإسلامي، الاحتياط الاستراتيجي لمخزون النفط والغاز، الأهمية الاستراتيجية لدور الإسلام الثقافي والسياسي... وأخيراً حرص الإدارة على صيانة وظيفة «إسرائيل» في المنطقة وحماية أمنها ودورها.
كل هذه «الاستراتيجيات» تعني أن المنطقة ستبقى عرضة للضغوط والتقلبات ولا فائدة ترجى من أسئلة مؤقتة وأجوبة عامة لا معنى لها في سياسة المصالح التي تقود الدول الكبرى وتجرجرها من مكان إلى مكان ومن حرب إلى أخرى. فالسياق السياسي الذي جاء فيه كلام غايتس عن البقاء «الطويل الأمد» يؤكد أن واشنطن لا ترى حربها على العراق والمنطقة مجرد خطأ أو تفصيل أو خطوة ناقصة وبالتالي يمكن مراجعة السياسة في ميزان الربح والخسارة. فالكلام على بساطته ليس متواضعاً فهو يعتبر بقاء القوات الأميركية مسألة وجود وعدم وبالتالي فإن السياسة التي اعتمدها رامسفيلد لن تتغير بذهابه وإنما يمكن تعديلها وفق زوايا جديدة لا تلغي القديم بل ربما تزيده فاعلية خدمة لأغراض استراتيجية كبرى تتعدى حدود الحسابات المؤقتة التي جاء تقرير بيكر - هاملتون على ذكرها?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1570 - السبت 23 ديسمبر 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1427هـ