لقد أثارني منذ فترة متابعة حوادث العراق الشقيق ومآسيه المتزايدة ذلك الشعب العربي الأصيل. وتزداد الآلام والأحزان عندما نسمع عن تصفيات لمدن عراقية عربية أصيلة مثل البصرة من إحدى الطائفتين الكبيرتين في الإسلام وانتقال عمليات التصفية الطائفية هذه إلى بغداد وارتداء دعاة الفتنة والقتلة ثياب الشرطة العراقية الرسمية كما جاء في تقرير «بيكر» وتقارير عدة مراكز بحثية بريطانية ذات صدقية وأنا أعرف أن الحديث عن السنة والشيعة بمثابة حقل ألغام ولذلك عزفت عنه لأكثر من سبب. أولها أننا في مصر لا نعرف السنة والشيعة وإنما نعرف الإسلام فقط، نحب آل البيت ربما بأكثر مما يحبهم الكثيرون، ونحب جميع الصحابة بأكثر مما يجلهم الكثيرون. ثانيها أنني في حياتي الدبلوماسية تصادقت مع عراقيين كثيرين ومع دبلوماسيين من البحرين وعمان والكويت وغيرها من دول الخليج ولم يدر ببالي مطلقاً إذا كان هذا الشخص سنياً أو شيعياً بل ولا حتى أنه مسلم أو مسيحي، فلم يكن يرد في خاطري ولا في قاموسي مثل هذه المصطلحات وإنما كان يرد في مصطلحاتي لفظان إنه عربي وإنه بحريني أو عراقي أو كويتي أي نسبة للدولة ونسبة للقومية، وأحياناً يرد أنه مسلم إذا كان غير عربي وكانت القضية المطروحة ذات ارتباط بالإسلام في المداولات الدولية. وثالثها أنني ممن يؤمنون بالله ويتمسكون بقواعد دينه ولكنني في الوقت نفسه لا أجد فائدة تذكر في خلط الدين بالسياسة، فلكل مجاله وخلط الأمرين معاً يفسدهما معاً. ورابعها أن التاريخ الإسلامي مليء بالمآسي والصراعات بين الفرق والملل والنحل وكفانا صراعاً ونظرات إلى الماضي ولابد أن ننظر للمستقبل. ومع حبي لتراثنا العريق وما فيه من قيم فإنه فيه الكثير من المآسي والأحزان والآلام وكثير من التزييف والتلفيق بين الفرق وبعضها بعضاً، وكما قال الشاعر:
كل يدعي حباً لليلى ولكن ليلى لا تقر لهم بحب
فالكل يدعي في صراعه السياسي أنه يدافع عن الإسلام والكل يرفع المصاحف ولكن الإسلام والمصحف يرفضان ذلك الاقتتال ويرفضان الخصام ويدعوان إلى الوفاق والوئام ويدعوان إلى الإثرة والبعد عن المغانم الآنية الدنيوية. ولقد لفت نظري مقال رئيس منتدى الحوار العربي الإيراني السيدمحمد صادق الحسيني في صحيفة «الوسط» 21 ديسمبر/ كانون الأول بعنوان: «غداً... سيكون متأخراً جداً» وأنا اتفق معه في مضمون مقاله بل أكاد أقول إن اليوم هو فعلاً متأخر جداً وينبغي المبادرة لعمل شيء ما. ولعلي أتصور من موقعي كباحث وكمثقف أن مسئوليتنا أكبر من مسئولية السياسيين فنحن من حيث الفهم أكثر إدراكاً لعمق المأساة، ونحن من حيث المصلحة أكثر ابتعاداً عن المصلحة الذاتية، ونحن من حيث المستقبل لدينا مسئولية أكبر من السياسيين ولهذا فإنني أضم صوتي داعياً الكتاب والمثقفين إلى كلمة سواء بالابتعاد عن الكتابات الطائفية والتحريضات الطائفية بل وإدانة السياسات الطائفية، إدانة عمليات التصفية الطائفية والقتل على الهوية والاختلاف والتمايز في الهوية.
إن عالم اليوم والمستقبل يدعو إلى الاتحاد والوحدة والتضامن، إن أوروبا بقوتها تتكتل وتتجمع ونحن كعرب أو كمسلمين لانزال نعيش الماضي ونحاول استرجاعه لتحقيق مزيد من الفرقة والانقسام والاختلاف بل الأكثر مأساة أننا نحاول استرجاع فكر القبائل والطوائف ونعيد عقارب الساعة لأكثر من خمسة عشر قرناً مضت لما بين داحس والغبراء من صراعات قبلية ونسعى لكي تكون كل قبيلة دولة أي نسعى لتدمير أنفسنا بأنفسنا، إن هذه أكبر مهزلة في تاريخ العرب والمسلمين وهذه أكبر هدية نقدمها لأعدائنا أن نفكر بمنطق الطائفة أياً كانت هذه الطائفة بدلاً من أن نفكر بمنطق الوطن ثم بمنطق الأمة، أن نفكر بمنطق التجزئة والفرقة بدلاً من أن نفكر بمنطق الاتحاد من أجل القوة والتماسك من أجل المنفعة. وأما السياسيون الطائفيون الذين جاءوا إلى العراق على متن دبابات الاستعمار والاحتلال ليس لديهم خطة للعراق سوى النزاعات الطائفية فعلى الشعب أن ينبذهم ويتخلى عنهم من أجل وطنه ومستقبله أياً كان لونهم أو طائفتهم فهذا لا يهم. إن إنقاذ العراق ووحدته ينبغي أن يكون الهدف الأسمى، إن الحفاظ على الأوطان وسلامتها ووحدة أراضيها ينبغي أن يكون المبتغى وإلا فقل على الجميع السلام أياً كانت الطائفة أو الفئة فالكل سيكون سواء تحت سنابك خيول ودبابات وطائرات العدو إما اليوم وإما غداً ولعمري هذا سيكون يوم القارعة فعلى المثقفين المسئولية الأولى في رفع الصوت وإعلان النذير خوفاً على مستقبل أجيالنا الحالية والقادمة وعندئذ لا ينفع الندم وينطبق علينا جميعاً قول تلك السيدة العظيمة في بلاد الأندلس عندما قالت لابنها الخليفة:
ابكِ على الأطلال مثل النساء على ملك لم تصنه مثل الرجال
والرجولة هنا ليس Gender وإنما هي بالفعل وكم من نساء المسلمين وغير المسلمين من هن أكثر شجاعة وحباً لأوطانهن من الرجال والتاريخ حافل بأسمائهن?
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 1570 - السبت 23 ديسمبر 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1427هـ