في التاريخ تَجِدُ الأمم مجالها الحقيقي. وبه ترى ظلّها على الآخرين. وبه أيضا يُصبح الأكيدُ أكيدا بفِعْلِ اللّحاظ والمعاينة، ويكون الظّن ظنا قبل أن يتحوّل بِفِعْل التجريب أكيدا وكأنّه يمُر بدرجات المنطق الموضوعية.
وإذا كانت الإنسانية كالجيوش في المعركة، تقدّمها مُرتبط بسرعة أبطأ أفرادها كما تقول الحِكمة، فإن تقدّم الأمم والشعوب مرتبط بدوام حاضر تاريخها ونشاطه، حين تصعد قيمة العمل فتزداد قيمة الحياة فيها.
فالعلاقة بين الإنسان والجغرافيا والتاريخ والبيئة أشبه بمُكعّبات الصورة التي إن كَمُلَت أجزاؤها أعطت مشهدا سليما، وإن نَقُصَت شوّهته وأثقلت من طريقة الوصول إلى حقيقة ملامحه وتقاطيع وجهه.
غاية الأمر أن أصِلَ إلى المُراد. فقد تبدّى للمتابعين مؤخرا أن همسا يجري داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة فحواه بأن ما يطلبه الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من السلطة الفلسطينية بشأن تعديل المناهج الدراسية يجب أن يتجاوز ما قامت به السلطة من تعديل لحدّ الآن!
التعديل الذي تطلبه تل أبيب وداعميها هو أن تُنعّم الموضوعات التعليمية بحيث لا تقترب صوب الشّحن والتحشيد ضد الاحتلال الصهيوني وهويات مؤسساته السياسية والثقافية وتاريخه! وهو أمر إن حصل فإنه نكسة أخرى يُلامس إيلامها نكسات ونكبات القضية الفلسطينية المتوالية.
بالتأكيد فإن مسيرة التفاوض لا تُعطي الحق لأحد أن يقول إن مجزرة دير ياسين لم تحدث، وأن عشرات القرى لم يتم إبادتها، بل ولا حتى التطبيع نفسه يُعطي الحق في ذلك. لأن المصالحات لا يجب أن تكون ضريبتها موت الجذور والتماهي مع الخصوم حتى في الهوية.
عندما أقدمت الحكومة اليابانية على تعديل منهج مادة التاريخ في المدارس الإعدادية والثانوية لتبرير وتمجيد مذبحة نانكين التي قَتَلَ خلالها الجيش الياباني 300 ألف جندي ومدني صيني في ثلاثينيات القرن المنصرف لم يقبل الصينيون بذلك، بل تظاهر عشرون ألف صيني. يجري هذا والبلدين لا يجمعهما احتلال بل أحدهم شريك للآخر بتبادل تجاري سنوي يصل إلى 170 مليار دولار.
منذ سنوات والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومعهم الكيان الصهيوني يتحدّثون عن خطورة المناهج الفلسطينية. بل إنه ومنذ أربع سنوات خَلَت دخلت على الخط منظمات وهيئات تربوية دولية كُبرى لتنقيح المناهج الفلسطينية.
فدخل «مركز إسرائيل/ فلسطين للأبحاث والمعلومات»، بطلب من القنصل الأميركي العام في القدس. ودخلت مؤسسة جورج أكيرت ومعهد هاري ترومان لتعزيز السلام بالجامعة العبرية، ونُقّحت لدى ائتلاف أوسلو لحرية الأديان والمعتقدات. (أنظر ما كتبه زيد حمزة في هذا المجال).
إلاّ أن تل أبيب تريد أزيد من ذلك. فهي نجحت في عدم تضمين تلك المناهج للحدود الطبيعية لفلسطين مُدّعية أن ذلك يتم بعد إتمام المرحلة النهائية من اتفاق السلام بينها وبين الفلسطينيين، وهي تُصرّ الآن على عدم ذكر أسماء المدن والقرى العربية من مادتي التاريخ والجغرافيا لدى الفلسطينيين!
وبعيدا عن المطالبات الصهيونية للفلسطينيين بحذف كلّ ما يُكرّس التوتر بين الصهاينة والفلسطينيين، وللتاريخ المهزوز، يُمكن لأيّ أحد أن يجري مقاربات داخل المناهج الدراسية الصهيونية ليقف على حجم حقيقة الصراع. وكيف أن الطرف الآخر مازال يُناجز خصمه ليس باقتصاد حرب فقط وإنما بمناهج تعليمية لا تتناسب إلاّ ومعارك السلاح.
حينما تجدّ ما يفيد من نصوص للصف الثالث الابتدائي داخل المدارس الصهيونية يقول: «إن الحقوق هي عبء طويل ممتد لابدّ أن يتقبله هؤلاء وأن يضحوا في سبيله كما ضحى الرواد الأوائل، وإن النشء لن يضحوا بأرواحهم إلا إذا آمنوا بيقين أن الحرب مشروعة وأنها تقوم لتحرير أراض محتلة وهي أرض الآباء والأجداد ومملكة (إسرائيل) منذ أيام داود وسليمان» فإن ذلك يعني أن شحنا عنصريا يمارسه الاحتلال بحق المُستَعمَرِين.
وحين تقول موضوعات تعليمية «رغم قسوة المناخ والبيئة العربية العامرة بحوادث المختلسين واللصوص والإرهابيين العرب، انتشر بين أبناء المدينة عدم الأمان والخوف من العرب القتلة» فإن ذلك يعني جزءا من رغبة في البقاء والتعاطي بذات القيم المتطرفة مع العرب (راجع كتاب تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية للدكتورة صفاء عبدالعال).
بماذا تَصِفُ المناهج الصهيونية العرب؟ العبارات لا تخرج عن «بيت الزواحف العربية، العرب اللصوص، المختلسون والأنذال المتعطشون للدماء اليهودية، العرب البدو المتخلفون، العرب عابرو السبيل وقطاع الطرق، والثعابين والأفاعي». (راجع نفس المصدر).
بل إن تلك المناهج (حسب دراسة خلف أحمد محمود) مازالت تُكرّس الأشعار الشوفينية لشاؤول تشرغوفسكي ومناحم نحمان بياليك وأفريم سيدوم و يعقوب باتمار ونتان الترمان المُمجّد لجرائم العصابات الصهيونية. ويُمكن لأي متابع أن يجد هذا النّص لتشرغوفسكي:
أين أعدائي؟ سوف أصرعهم
وأحطمهم وأقطعهم إربا
سوف أقطع كالحاصد، وأجتز جذورهم
سأجعل سيفي يشرب فخورا من دمهم
ستستحم خطواتي في دماء الصرعى
وتدوس قدماي على شعر رؤوسهم
سأقطع باليمين وأحصد بالشمال
فلقد اشتعل غضبي، وصار جحيما
لقد ضايقني كثيرون، ولكني لن أبقي أحدا بعد المذبحة
نعم سأفنيهم حقا...
أو تجد قصيدة أفريم سيدوم التي يقول فيها:
يا أطفال صور وصيدا
إني أتهمكم.. ألعنكم
ستنامون محطمي العظام
في الحقول وفي الطرقات
لا تسألوا لماذا
إنه العقاب
والآن حان عقابكم
باختصار شديد، فإن الكيان الصهيوني يريد أن يُحافظ على ذات المنهجية التاريخية المتطرفة في العملية التعليمية والتربوية الخاصة ليضمن أكبر مساحة ممكنة من التحفيز الاجتماعي لمواجهة متطلبات القيم العدوانية له ضد العرب.
لكنه لا يقبل أن تتضمن مناهج الفلسطينيين أية إشارات لسياقهم التاريخي ولهويتهم، بل يزيد على ذلك بضرورة الابتعاد عن تناول التاريخ القديم للمنطقة، والذي يتضمّن وجود العرب التاريخي فيها، وضرورة ذكر الحضور المماثل للعبرانيين، ثم إلى التاريخ الطبيعي المُنَعَّم لقيام الكيان الصهيوني قبل ستين عاما.
أختم بالقول إن الحفاظ على التاريخ وصوره وشخوصه ومُسمّيات حقبه وأرضه وبيئته (دون تبنّي المطبّات بالتأكيد) هو الذي يُعطي مزيدا من الشرعية. وإذا ما تمّ التلاعب بأجزائه فضلا عن كلياته مهما كانت الحجّة في ذلك فإن النتيجة لن تكون أكثر من أمم مبتورة طارئة قد يُبنى على جديدها المعاق وقائع وظروف سياسية منقوصة الحقوق.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2467 - الإثنين 08 يونيو 2009م الموافق 14 جمادى الآخرة 1430هـ
منهج متخلف
منهج التعليم لديهم يسعى إلى إخفاء الحقيقة وإظهار الكره الكبير للمسلمين وخاصة العرب والفلسطينين, وما يأتي في كتبهم وتعليمهم يحفز كل قارئ يهودي الى زيادة الحقد والكراهية للمسلمين والعرب كافة.