لا يمكن أن يستعرض المرء محطات التاريخ البحريني التي تجسدت فيها الوحدة الوطنية من دون أن يسجل دوراً كبيراً للشيخ الجليل عبدالأمير الجمري -رحمه الله-. ولعل آخر تلك المحطات كانت زيارته التاريخية لجمعية الإصلاح بالمحرق تثبيتاً لجسور الوحدة الوطنية وتقويتها. وإذا كانت مرحلة هيئة الاتحاد الوطني قد أسست للنموذج الأسمى والأمثل في الوحدة الوطنية، فإن التسعينات الماضية قد شكّلت مرحلة أخرى مهمة على الطريق ذاته. لقد كان فرسان تلك الوحدة الوطنية هم أعضاء لجنة العريضتين النخبوية 1992 والشعبية 1994 التي كان الشيخ الجمري أحد أهم أعضائها. استجابة الشيخ الجمري - بما يمثله من زعامة دينية وسياسية كبيرة في الشارع الشيعي - إلى الانضمام للجنة العريضة حين تشكلها كانت تعبيراً جلياً عن توجهه الصادق نحو تفعيل وحدة وطنية حقيقية تتسامى فوق الطوائف والعقائد. وضع الشيخ الجمري الوطن ومطالب الشعب في المشاركة السياسية أمام ناظريه، ومضى في عمل سياسي ووطني موحد خارج النزعات الطائفية والمذهبية السياسية والدينية. لجنة العريضة التي قرر الشيخ الجليل العمل في إطارها كانت تضم شخصيات يسارية سنية وشيعية من التيار الوطني الديمقراطي، وكانت تضم رجالَ دينٍ سُنة، وعدداً من الشخصيات الوطنية العامة. كان انضمام الشيخ الجمري ومن بعده عدد من زملائه يتساوق مع نهجه في ضرورة التعاطي مع الآخر المختلف وعدم الابتعاد عن الساحة المجتمعية التي تضم الجميع. ولم أجد حول ذلك أبلغ مما قاله الشيخ الجمري في إحدى خطب الجمعة: «الاختلاف موجود، والجماعات المختلفة معك موجودة، ولا يمكن أن تلغيها لمجرد أن تغمض عينيك، وانه لا ينبغي أن تبتعد عن الساحة إذا وجدت من يختلف معك وتعيش في مغارة لوحدك.» (ملحق «الوسط»، 19 ديسمبر/ كانون الأول2006).
يوضح أحمد الشملان، الشخصية الوطنية المعروفة وأحد أبرز أعضاء لجنة العريضتين، أن أعضاء اللجنة وعلى مدى مسيرة عملها قد لمسوا كم كان الشيخ عبدالأمير الجمري بالذات مميزاً بروحه الوطنية العليا. وكان يمتاز بسمات الصدق وحسن النوايا في إقباله على الشراكة في عمل موحد ذي طابع وطني عام. كما كان مميزاً بأريحيته وتسامحه، ما ينم عن ذهنية متفتحة في التعامل ليس مع شخصيات وطنية تنتمي لتيارات أخرى فحسب، بل وفي تقبله المرن لمقتضيات التطور المجتمعي وانعكاساتها على عمل اللجنة. ويضرب الشملان مثلاً على ذلك بتقبل الشيخ الشخصي للمشاركة النسائية في عمل اللجنة وفي العمل السياسي بشكل عام. ويطرح الشملان بعض الأمثلة التي عايشها شخصياً في علاقته مع الشيخ الجمري، وهي أمثلةٌ تدلّل على صدق التوجه الوطني للشيخ الجليل الذي كان أحد تجلياته عمق الثقة الوطنية التي تأسست بين الرجلين. كان الشيخ عبدالأمير الجمري يعرف تماماً من يكون أحمد الشملان فكراً وخطاً سياسياً، ولم يتخفَ أي منهما عن الآخر أو يتجمل بما يوافق هوى الآخر. كان الوطن وحده هو الحاضر بينهما، وتلمّس كل من الرجلين مقدار ما يتمتع به صاحبه من إخلاص وطني وإيثار وتفانٍ في تحمل مسئولية الهم الوطني. تعمّقت بين الرجلين عرى وثيقة عمادها الثقة الوطنية التي بلغت أحياناً حد إقدام الشيخ الجمري على التداول المشترك وتبادل وجهات النظر حول الأفكار والموضوعات التي ينوي طرحها في بعض خطبه إبّان أي تطور مهم في أحداث الساحة السياسية في التسعينات. أصبحت العلاقة بين الرجلين مثالاً حياً على المنحى الوطني المعزز للوحدة الوطنية الذي اتخذه الشيخ الجمري في علاقته مع الآخر. إضافة إلى ذلك، أظهرت بعض الشواهد امتزاج البعد السياسي الوطني بالبعد الإنساني، وارتقاء العلاقة بينهما إلى درجات من السمو والحميمية. فحالما اعتقل الشملان في فبراير/ شباط 1996، أوعز الشيخ عبدالأمير الجمري الذي كان هو الآخر داخل المعتقل حينها إلى زوجته وبناته وكنته بزيارة أسرة أحمد الشملان لإظهار واجب الدعم المعنوي الذي تحتاجه. ويذكر الشملان أنه حينما تقرّر تقديم الشيخ الجليل للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة في فبراير 1999، كان المرض قد ألم حينها بالشملان وأعجزه عن ممارسة مهنته في المحاماة. وأصر الشيخ المحجوب عن كل ما يجري خارج سجنه لما يربو على الثلاث سنوات إصراراً شديداً على أن يكون أحمد الشملان هو المحامي الذي يتولى الدفاع عنه. حيال ذلك اضطر الأمن العام للاتصال بمكتب المحاماة التابع للشملان وإخباره بطلب الشيخ. وعلى رغم أن المرض قد أعجز الشملان تماماً عن كتابة المرافعات والترافع أمام المحاكم، إلاّ أنه سجل اسمه ضمن فريق محامي الدفاع عن الشيخ الجمري وحضر جلسات المحاكمة إكراماً للشيخ الجليل وتلبيةً لطلبه. وفي العام 2003 زار أحمد الشملان الشيخ عبدالأمير الجمري الذي كان يرقد على فراش المرض في الرياض، وكانت حاله تتأرجح بين الصحو والغيبوبة. وقد أُخبر حينها بأن الشملان بقربه زائراً مطمئناً على صحته فقال بكل محبة وحميمية: «هذا الشملان حبيبي».
ما طُرح من شواهد وإن كانت ذات خصوصية شخصية، إلاّ أنها تتعلق بشخصيتين وطنيتين من حق الناس أن تعرف وتتعلم من مسلكهما الوطني الخالص في العمل الوطني وفي الحياة. كم نحن اليوم بالذات بحاجةٍ إلى التعلم من دروس الرجلين اللذين أعجزهما المرض عن مواصلة دورهما الوطني الكبير. وبالأمس القريب فجعنا بموت الشيخ الجليل عبدالأمير الجمري، فله الرحمة... ولنا الصبر والسلوان?
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1569 - الجمعة 22 ديسمبر 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1427هـ