العدد 1569 - الجمعة 22 ديسمبر 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1427هـ

نزيف العقول العراقية... إلى متى؟ ولمصلحة من؟

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

70 أستاذاً جامعياً في مختلف الاختصاصات العلمية قتلوا منذ الغزو الأميركي للعراق في مارس/ آذار من العام 2003، فيما تعرض عشرات آخرون لعمليات ترهيب أجبرتهم على مغادرة البلاد.

إحصاء لرابطة المدرسين الجامعيين العراقيين يؤكد أن عدد الأساتذة والعلماء والمفكرين الذين قتلوا في العراق 190 قتيلاً، ونحو 300 آخرين تلقوا تهديدات بالقتل، فيما لا يعرف أحد على وجه الدقة عدد الأساتذة والأطباء والمفكرين والعلماء العراقيين الذين غادروا العراق منذ التدخل الأميركي فيه. هذا ما نقلته خدمة «قدس برس» من بغداد.

أما كاظم المقدادي من مجلة «النبأ» فينقل عن وليد الحيالي «اضطرار عشرات الآلاف من ذوي الكفاءات العلمية إلى ترك العراق والمغادرة إلى الدول الأجنبية، وفي مقدمتها الأوروبية، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا. الإحصاءات غير الرسمية، الصادرة عن هيئات ومنظمات حقوق الإنسان العراقية، تؤكد وجود 25 ألفاً من حملة الشهادات العليا، من مجموع 4 ملايين عراقي مهاجر خارج الوطن. وهذا الرقم لا يشمل حملة الشهادات الجامعية الأولية، الذين تؤكد الإحصاءات الأولية ان مجموعهم بلغ 90 ألفا، من بينهم 3500 طبيب و5000 مهندس، والباقي من مختلف التخصصات العلمية والإنسانية الأخرى».

هذه هي صورة العراق اليوم الذي يجري الحديث فيه عن كل شيء إلا عن النزيف المستمر للعقول البشرية الكفؤة التي باتت مضطرة إلى الهجرة من العراق بحثا عن الأمن والأمان اللذين يتيحان لها الاستقرار ومن ثم الإنتاج.

ولكي ندرك خطورة هذه الظاهرة العراقية ينبغي أن نربطها بنزيف العقول في بلدان أخرى من الدول النامية ومن بينها الدول العربية، إذ تشير الإحصاءات الرسمية الأميركية إلى أن الفترة بين 1960 و1987 شهدت هجرة أكثر من 850 ألف كفاءة من الدول النامية ومنها الدول العربية إلى الولايات المتحدة وكندا.

ومنح القانون الأميركي في العام 1965 أولوية للعقول المفكرة المهاجرة إلى الولايات المتحدة. ومازال هذا القانون يحظى برعاية الكونغرس الأميركي، إذ يتم تغييره من آن إلى آخر طبقاً لاحتياجات أميركا إلى العقول الأجنبية القادمة إليها.

وتشير الإحصاءات الرسمية الأميركية كذلك إلى أن الفترة من 1962 و1969 شهدت هجرة أكثر من 4000 كفاءة عربية إلى الولايات المتحدة.

والإحصاءات الحديثة جداً تذكر نزيف العقول العراقية والعربية وتشير - على سبيل المثال لا الحصر - إلى هجرة 15 ألف طبيب عربي إلى الخارج للفترة بين 1998 و2000. وهجرة الكفاءات العالية جداً من البلدان العربية إلى الغرب كانت واحدة من العوامل الخطيرة لتردي حال المعرفة وأهميتها في البلدان العربية.

وتشير إحصاءات مكتب الهجرة الأميركية إلى استقرار أكثر من 70 ألف عربي في الأعوام من 1972 إلى 1977 من بينهم الكثير من الكوادر العلمية. وشملت الهجرة هذه حتى كوادر من الدول الغنية بالنفط كالمملكة العربية السعودية والكويت. وأشارت بعض التقديرات إلى أن عدد العقول المفكرة العربية التي هاجرت إلى الغرب في فترة السبعينات تقدر بنحو 17 ألف مهندس، 7500 عالم طبيعة، و24 ألف طبيب.

أما الكفاءات العراقية فقد شهدت البلدان الأوروبية الرئيسة تزايداً في أعداد الطلبات للحصول على حق اللجوء السياسي، وبلغت أعدادها 4.2 ملايين طلب للفترة بين 1991 و1995 وتحتضن بريطانيا أقدم الجاليات العراقية في أوروبا والمهجر. وأظهرت الإحصاءات أن نسبة المتعلمين من هذه الجالية عالية جداً، إذ نسب الشهادات الجامعية 75 في المئة، ونسبة الذين يحملون شهادات عليا هي 33 في المئة للذكور و9 في المئة للإناث وهو مؤثر على ارتفاع هجرة أصحاب الكفاءات العالية.

ويتوقع لظاهرة هجرة العقول أن تتفاقم في المستقبل، وتصبح أشد تعقيداً لسببين:

الأول: طبيعة نظام العولمة والقوى المحركة لها تعني الحركة في سوق عالمية واحدة للبحث عن العقول والكفاءات المبدعة، وخصوصاً في عصر المعرفة، إذ تمثل المعرفة والإبداع رأس المال الحقيقي للتوظيف في الإنتاج والابتكار.

الثاني: انخفاض نسبة الكفاءات العلمية في الدول المصنعة، الغربية منها خصوصاً، بسبب انخفاض نسب الولادة وانخفاض عدد المتخصصين في الفروع العلمية والتقنية، ما يجعلها تبحث عن عقول وكفاءات أجنبية لملء الشواغر. وطورت أميركا هذا العام قانون الهجرة لتسمح لأعداد أكبر من المواطنين غير الأميركيين والمتخصصين في العلوم والهندسة بالعمل والعيش في الولايات المتحدة.

يجدر أن يكون الاهتمام أكثفَ من قبل العراق والدول العربية لظاهرة نزيف العقول المتفاقمة، وخصوصاً في السنتين الأخيرتين. لكن الذي جرى مازال يمثل توجهاً بسيطاً ونقاشاتٍ أوليةً ومؤتمراتٍ قليلةً من منظمات عربية غير حكومية غالبيتها تعيش في المهجر تحاول فيها ربط البلدان العربية بالطاقات والمواهب العربية المهاجرة، ومساهمة الأخيرة في عطاءاتها وخبراتها للمنطقة العربية.

ولكي يدرك القارئ مدى الخسارة الفادحة التي يسببها نزيف العقول من العراق يكفي أن نعرف أنه خلال السبعينات كان هناك أكثر من 2000 طبيب عراقي يعملون في مستشفيات بريطانيا.

وحينها، وبحسب إحصاءات نظام صدام كانت كلفة تدريس وتخريج طالب كلية الطب في العراق تبلغ أكثر من 15 ألف دينار عراقي في السبعينات (نحو 45 ألف دولار)، أي أن وجود أكثر من 2000 طبيب عراقي يعملون في مستشفيات بريطانيا الآن كلّف خزينة الدولة أكثر من 100 مليون دولار.

وليست الصورة الراهنة بأفضل مما كانت عليه الحال في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي. وعن هذه المسألة يقول محمد خالد (أستاذ تدريس في جامعة بغداد) إنه «بعد 9 أبريل/ نيسان العام 2003 ولحد الآن لم نجد استقطاباً من لدن الشركات العالمية للكفاءات العراقية، إذ إن الوضع الأمني لايزال عائقاً لوجود الشركات العالمية المختصة في مجال استثمار رأس المال البشري»، وأضاف أن «الاستثمار لرأس المال البشري في العراق ممكن وناجح؛ لأن كل شيء موجود»، إلا المكننة والمختبر اللذين يعدان إحدى الحاجات الضرورية للبحث العلمي، وبالتالي دعا الشركات الأجنبية إلى استثمار رأس المال البشري في العراق، من خلال التعاون بين الشركات العالمية والجامعات العراقية، لكنه ذكّر بالوضع الأمني الذي يعوق عملية الانتقال في المجتمع العراقي ككل.

أما الأستاذة الجامعية ومديرة شئون الدراسات العليا في الجامعة التكنولوجية نوال فتقول: «إن إشكال التعليم في العراق هو عدم توفير مختبرات جيدة للتعليم، إننا عندما نطلب تجهيزاً من الوزارة بـ 100 جهاز تصل إلينا 10 أجهزة ولا نعلم السبب وهذا يعوق عملية تطوير رأس المال البشري».

وإذا كانت الشركات العالمية حقا تريد استثمار رأس المال البشري، فلتعجل بذلك؛ لأن العقول العراقية ممتلئة ومتخمة بالبحوث والنتاجات العلمية الرصينة، التي لم تستطع أن ترى النور بسبب عدم وجود جهة جذب أو تنفيذ لهذه المشروعات الاستثمارية، وأكدت أنه على الشركات المستثمرة ضرورة أن توفر منحة مالية لطلاب الدراسات العليا، ناهيك عن الموضوعات المهمة، التي تستحق البحث، خدمةً للاستثمار في العراق.

ومن جانبها، أدركت هيئة الإذاعة البريطانية خطورة الموقف، فنقلت صورة واضحة لما يجري على الساحة العراقية من خلال مجموعة من المقابلات بثتها في موقعها على الإنترنت، جاء فيها:

- طلبة في الجامعة المستنصرية يقولون: استهداف ذوي الكفاءات قتلاً واختطافاً، هجرتهم تحت طائلة التهديد، اعتكافهم بعيداً عن عملهم... تلك هي تفاصيل الوضع الذي تعيشه فئة مهمتها بناء مستقبل البلاد.

- الجميع يعرف أن الحوادث التي تجري في العراق كثيرة ومتنوعة، بأشكالها وبدوافعها وبمن يقف وراءها، أحدها يتماس مع هذا الموضوع وهو ما وقع أخيراً للعاملين في إحدى إدارات وزارة التعليم العالي من اختطاف جماعي على يد مسلحين. الأنباء تناقلت هذا الحادث بالتفصيل (بسبب سعته وربما غرابته)، وإثره جرت أسئلة وأطلقت اتهامات وذكرت شهادات ووقعت مداهمات.

- عملية الاختطاف الجماعي لموظفي مؤسسة بحث علمي أثارت إلى جانب ذلك أسئلة كثيرة بما فيها: لماذا تستهدف فئة من أهم فئات المجتمع، دونما تمييز؟

محمد الربيعي يقول: «كثيرون يرون أن هذا الأمر يكتنفه غموض شديد، وهناك من يحاول أن يتلمس خيوط المشكلة المتشابكة... لكن الأمر الذي يتفق عليه الجميع، هو أن ما يشهده العراق يشكل استنزافاً مخيفاً للعقول والكفاءات والتخصصات العلمية والأكاديمية». ويضيف «كان العراق قد شهد - أيام النظام السابق - هجرة واسعة للمثقفين وذوي التخصصات وحملة الشهادات بسبب الظروف السياسية والاقتصادية وغياب الحريات وأسباب أخرى. غير أنه لا يعرف الكثير عن دوافع عمليات الاستهداف الحالية أو من يقف وراءها. وطبقاً للإحصاءات التي تتداولها منظمات معنية بالأمر، فإن المئات من هؤلاء قتلوا أو اختفوا، بينما هاجر الآلاف إلى خارج البلاد طلباً للأمان».

ويتابع «يتصدر أساتذة الجامعة عدد القتلى من ذوي التخصصات في الفترة بين أبريل من العام 2003 وأبريل 2006، ويشكل هؤلاء نسبة 64 في المئة يليهم ذوو التخصصات الطبية في الجامعة وخارجها (21 في المئة)... معظم الضحايا أساتذة وغيرهم من الأكاديميين... غادر نحو ألف طبيب العراق بينما قتل نحو 220 طبيباً خلال الفترة نفسها».

عمليات التهجير القسري والتهديد والخطف والقتل الجماعي اليومي التي طالت - ولاتزال - الأكاديميين العراقيين من قِبل مافيات القتل المنظم، أمست لغزاً لم يتم فك رموزه.

إن ترويع الهيئات التدريسية في الجامعات العراقية وهجرة العقول إلى الخارج ما هما إلا عملية منظمة لتعثر العملية التربوية في العراق. هذا ما يؤكده بعض الأساتذة العراقيين، وآخرون يرون أن جرائم تصفية العقول والكفاءات العراقية أخذت منحًى آخرَ يلفها غموض شديد من دون أن تكلف الجهات الأمنية الرسمية نفسها بالاهتمام بذلك، والسؤال الذي بقي بلا إجابة: ترى من يقف وراء هذه الجرائم التي استهدفت أهم فئة من فئات المجتمع العراقي؟ وما دوافع عمليات الاستهداف الحالية؟ ولمصلحة من؟ وإلى متى؟?

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 1569 - الجمعة 22 ديسمبر 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً