انتفاضة التسعينات... هل كان مخططاً لها؟ وهل للشيخ الجمري دور في التخطيط لها؟ أم كانت وليدةَ حوادث مكتومة تراكمت، ولمّا انفتح لها أفق التحليق، ووجدت ضالتها في قيادة تحمل همها وتحظى بثقتها، انطلقت معها وتفاعلت في الشارع؟
بحسب مراقبة كاتب السطور، إن الحركة لم يكن مخططاً لها، وخصوصاً بالصورة التي حدثت. لقد كان بعض أقطاب المجتمع وعلى رأسهم الشيخ الجمري قد تقدموا العام 1992 بعريضة نخبوية تطالب بعودة الحياة النيابية التي عُلِّقَت في العام 1975، ولمّا لم تلقَ هذه العريضة استجابة، تم بعد سنتين تدشين عريضة أخرى شعبية وليست مقصورةً على النخب، تدعو إلى تفعيل الدستور وخصوصاً الجزء المتعلق بعودة المجلس الوطني. وصادف وقت جمع التوقيعات عليها حادث الماراثون الذي انطلق أمام قريتي القدم والمقشع، احتجاجاً - بحسب رؤية منظمي الاحتجاج - على مظاهر «التعرّي» التي لا تليق بقرى شارع البديع المحافظة؛ نظراً إلى ملابس الرياضة التي ارتدتها الغربيات المشاركات في الماراثون.
كان الشيخ الشاب علي سلمان إمام صلاة الجماعة في جامع الإمام الصادق (ع) بالدراز، خلفاً للشيخ عيسى قاسم - صديق الشيخ الجمري - الذي سافر العام 1991 لتكملة دراسته الدينية. وتميّز هذا الشاب بجرأة لم تعهدها الساحة مطلقاً في طرحه المطالب الحياتية، حتى إنه دافع في إحدى خطبه بكل صراحة عن العاطلين، محذراً من أن الشعب حتى لو انه أضعف من الحكومة فإنه قادر على إيذائها وإقلاق مضاجع المتنفذين والمستحوذين على الثروة. وطالب الشيخ الشاب جموع المصلين بالتوقيع على العريضة، منبهاً إلى أن حل مشكلة البطالة وغيرها من المشكلات يكمن في تفعيل دور الشعب في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت قبة البرلمان، وكان هذا المطلب آنذاك يعتبر سابقةً في هذه المنطقة من العالم.
استغلت السلطات حادث الماراثون في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1994 للتشويش على العريضة الشعبية، التي بلغ عدد الموقعين عليها حينذاك 25 ألف مواطن، فاعتقلت الشيخ علي سلمان، واتهمته بالتحريض على تنظيم الاحتجاج على الماراثون. حينها نظمت مجموعة من الشباب من مختلف المناطق، احتجاجات على الاعتقال، ابتدأت على شكل اعتصام أمام منزله بالبلاد القديم. ضُرِبَ الاعتصام فانطلقت مسيرات الاحتجاج بعد صلاة الجمعة من جامع الإمام الصادق (ع) بالدراز، المكان الذي كان سلمان يؤم أكبر تجمعات المصلين في البحرين.
في منتصف يناير/ كانون الثاني من العام 1995 أبعدت السلطات الشيخ علي واثنين من رفاقه إلى الإمارات العربية المتحدة، فاستفادت حركة أحرار البحرين من هذه الفرصة، فأرسلت الناطق باسم الحركة آنذاك منصور نجل الشيخ الجمري ليصطحب الثلاثة إلى لندن في الـ 17 من الشهر نفسه.
والحق أن الشيخ الجمري كان قريباً بل ملاصقاً لحوادث الحركة منذ بداياتها الأولى، فكان في مقدمة المسيرة الحاشدة التي شيّعت الشهيد هاني الوسطي في جدحفص. بعد أسبوعين من التظاهرات، وسقوط الشهداء، كان لابد من امتداد يد تداوي هذا الجرح بكل صراحة وشفافية. بدأ الناس يلتفتون إلى الخلف ويتساءلون عن موقف العلماء الموجودين على الساحة، حينها أدرك الشيخ الراحل خطورة المرحلة وصعوبة المنعطف الذي تمر به الحركة.
وكان الشيخ الجمري على علاقة وطيدة وقوية وانفتاح كبير مع جموع الشباب التي كانت تؤم مجلسه باستمرار، وبفضل مشاوراته المستمرة، أدرك مبكراً أن وردة الانتفاضة في طريقها إلى الذبول ما لم يتصدرها شخص ذو رمزية كبيرة، فالناس لا يمكن أن تجازف بالخروج في المظاهرات ودخول السجون وفقدان الوظائف ما لم تكن شخصية محل ثقة الجميع تتصدى وتبارك حركتهم ومطالبهم الوطنية العادلة، وهكذا حظي الشيخ الراحل بثقة والتفاف الشباب.
حينها تحدث البعض عن مبادرة لحلحلة الوضع، غير أن قوات الأمن واصلت إجراءاتها الأمنية، واستعدت الكل من خلال الاعتقالات العشوائية واقتحام البيوت وترويع أهلها، فضلاً عن الفصل التعسفي من الوظائف وقطع الأرزاق. وأعطيت فرصة للمبادرة، لكنها لم تنجح، فتم تنظيم مسيرة سلمية حاشدة أمام دوار قرية القدم، بمباركة ومساندة من الشيخ الجمري، فانطلقت الحركة بقيادة مجموعة من الرموز وعلى رأسهم الشيخ الراحل. أصبحت بني جمرة مهوى أفئدة الشباب الغاضب على سياسات الحكومة، وكانت خطب الشيخ مدوّية لا تعرف معنًى للتردّد في تناول الوضع العام ونقد سياسات الدولة تجاه المطالب الشعبية التي ألهبتها الحاجة إلى العمل والوظيفة.
النقطة المهمة جدّاً، أن الشيخ الجمري وأصحابه أجادوا بكل جدارة تحويل الحركة الاحتجاجية الطارئة المحصورة في نطاق مطالب محدودة إلى حركة مطلبية وطنية تطالب بإعادة الحياة النيابية، ما أعطى لها بعداً عميقاً جعلها تستمر أكثر من 5 سنوات، وهو من أهم الأدوار المحورية التي أسهم فيها الشيخ الراحل. ويرى بعض المراقبين أنه لولا تصدي الشيخ الجمري كشخصية دينية ووطنية تحظى بثقة الناس، لكانت الحركة انتهى أمرها من أسابيع انطلاقتها الأولى، وهذا أخطر دور تفرّد به الشيخ دون غيره.
إن تصديه لقيادة الحركة جعل الحكم بين خيارين: تركه بين الناس يقود حركةً سلميةً وطنيةً أجمعت على مطالبها العادلة كل الأطياف، أو زجّه في السجن. وهكذا أُدْخِلَ الشيخ السجن، ولكن دخول الشيخ الكبير السجن أرّق الضمائر، وجعل التراجع عن الحركة في عداد المستحيلات، ولم يشعر أحد بفرحة عيد من الأعياد مرّ في تلك الفترة، وأصبح شعار «لا عيد والجمري بعيد» معبّراً بقوة عن الألم العام لما جرى للشيخ.
لم تكن معاناة الشيخ الراحل جديدةً، ولم تطرأ بانبلاج فجر الحركة المطلبية الوطنية في التسعينات قط، فمازلت أتذكّر مخاطبته أحد الشباب المقربين منه حين ذهب للسلام عليه قبل أن يسافر زائراً الإمام الرضا (ع) بخراسان، قبل حوادث التسعينات، فقال له الشيخ بصوته ذي النبرة الحزينة المعروف بها حين يرتقي المنبر الحسيني: «كل ما أطلبه منك، أن تدعو الله أن يلم شملي ويجمعني بعزوتي وأفلاذ كبدي». حينها كان الابن الأكبر محمد جميل يقضي عقوبة السجن 10 سنوات، والابن الآخر في المهجر في لندن.
وبعد انفراج الأوضاع، لم يهنأ الشيخ برؤية ولو جزء من ثمار جهاده ونصبه لرفع الحيف عن الناس، نتيجة ما ألمّ به من ظروف السجن وإصابته، التي سافر ليجد لها علاجاً في ألمانيا، فقادته إلى حيث الغياب التام عن الدنيا.
لقد تكلّم حين ندر الكلام وقلّ، وصمت في زمن كثر فيه المتحدثون. ذهب الشيخ وفي قلبه هموم ثقال، محمولاً في ليلة قاسية البرودة، لكنها تدفأت بدموع الحزن الممتزج بالغضب على ما ناله. ذهب بظلامته صامتاً حتى احتضنت جسده الأرض... ليبقى حيّاً في قلوب الشرفاء?
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1569 - الجمعة 22 ديسمبر 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1427هـ