عاد الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى بيروت وغادرها على الأمل أن يتوصل إلى حل مقبول من الأطراف اللبنانية في جولة ثالثة يتوقع أن تبدأ بعد رأس السنة الميلادية. وبانتظار عودة موسى بعد الأعياد تبدو الأمور متجهة نحو التصعيد الداخلي. فالأطراف اللبنانية متوافقة على «الاتفاق الإطاري» الذي توصل إليه موسى ولكنها مختلفة على جدولة نقاط الاتفاق. فالخلاف لايزال بين «8 و14 آذار» على نظام الأولويات.
قوى «8 آذار» تضع حكومة الوحدة الوطنية أولاً (الثلث المعطل) ثم «المحكمة ذات الطابع الدولي» ثانياً ثم الاتفاق على قانون انتخابات جديد ثالثاً ثم الانتخابات النيابية رابعاً وأخيراً انتخاب رئيس توافقي جديد لرئاسة الجمهورية.
قوى «14 آذار» تملك برنامجاً مخالفاً فهي تبدأ الجدول من الموافقة على «المحكمة» أولاً، ثم حكومة الوحدة الوطنية (من دون ثلث معطل) ثانياً، ثم انتخاب رئيس توافقي جديد لرئاسة الجمهورية ثالثاً، ثم التفاهم على قانون انتخابي جديد رابعاً، وأخيراً إجراء انتخابات نيابية على أساس القانون الجديد.
الاختلاف على الأولويات شكل سلسلة تجاذبات كادت أن تدفع موسى إلى هاوية الفشل وخصوصاً أن «8 آذار» هددت بالتصعيد بعد الأعياد مقابل أن «14 آذار» سارعت إلى نشر قانون «المحكمة» في «الجريدة الرسمية» قبل رفعه إلى المجلس النيابي. وهذا التجاذب شكل صدمة سياسية لموسى جعلته يقوم بزيارتين الأولى إلى الرياض والثانية إلى دمشق مضافاً إليهما اتصالات هاتفية أجراها مع مراجع عربية وإيرانية لاستمزاج رأيها وطلب المساعدة منها للضغط على الحلفاء بغية التراجع أو إبداء مرونة في برنامج الأولويات.
اتصالات موسى العربية وغير العربية أعطته الضوء الأخضر وشجعته على مواصلة مهمته لأنها تشكل المخرج السياسي المعقول للأزمة. إلا أن موسى وجد أن المساعدات المرجوة محكومة بدورها بسلسلة توافقات لبنانية غير متوافرة. دمشق مثلاً قالت إنها لا تتدخل بالشئون اللبنانية وتتمنى لهذا البلد الاستقرار والسعادة وهي توافق على ما يتوافق عليه اللبنانيون. وبما أن اللبنانيين لا يتوافقون فمعنى ذلك أن الأزمة ستبقى مفتوحة على مجموعة احتمالات داخلية وإقليمية ودولية.
وجوه مختلفة
داخلياً. هناك حالات من الاستنفار السياسي وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بالعمالة والخيانة ولعب دور تخريبي نيابة عن «إسرائيل» والولايات المتحدة. وحين تصل العلاقات الأهلية إلى طور التخوين فإن احتمالات التسوية ستتراجع مادامت جسور الثقة انهارت. وإذا انهارت جسور الثقة في بلد طوائفي ومذهبي فإن المواجهة ستذهب باتجاه يعاكس الانقسام السياسي وستطغى عليها الألوان الطائفية والمذهبية والمناطقية. وهذا ما يمكن ملاحظته من التراشق الإعلامي اليومي الذي يظهر على شاشات التلفزة والفضائيات.
عربياً. هناك أيضاً حالات من الاستنفار السياسي بين الدول. وهذا الاستنفار بدأت معالمه تظهر في اليوم الأول للعدوان الأميركي - الصهيوني وتعاظم خلال الحرب التي امتدت نحو 34 يوماً. وأدى الاستنفار إلى نوع من الاستقطاب الإقليمي تركز على تقاطعين الأول مصري - سعودي والثاني سوري - إيراني. التقاطع الأول اتجه نحو نقد سياسة المغامرة التي أعطت ذريعة للعدو باتباع نهج الأرض المحروقة. والثاني اتجه إلى السكوت بانتظار وقف إطلاق النار. وحين أعلن عن وقف العدوان تحت سقف القرار الدولي 1701 ظهرت ميدانياً سلسلة تعارضات عربية وإقليمية. فالمحور العربي المصري - السعودي اعتبر أن العدوان كان محاولة لضرب مشروع الدولة في لبنان تمهيداً لإلغاء اتفاق الطائف. والمحور الإقليمي السوري - الإيراني اعتبر نفسه منتصراً وعلى المقاومة أن تستثمر قوتها داخلياً. وشكل اختلاف القراءة بين المحورين اهتزازات لبنانية تلونت أهلياً بشعارات طائفية ومذهبية. وهذا ما أسهم لاحقاً في استنفار العصبيات وإعادة تجميعها في معسكرات متقابلة في الساحات السياسية. وبسبب هذا النوع من الاستقطابات الأهلية تشكلت موازين قوى متعادلة في أحجامها الأمر الذي يفسر إلى حد ما سبب تماسك حكومة فؤاد السينورة وعدم انهيارها.
دولياً. هناك أيضاً حالات من العودة إلى سياسة الاستنفار والتجيش والحشد البري والبحري في العراق والخليج معطوفة على احتمالات صدور مواقف متشددة من الإدارة الأميركية التي تبدو أنها في مزاج عام يميل إلى توسيع دائرة التقويض في حال توافرت الفرصة الدولية. وبهذا المعنى يمكن قراءة الكثير من تفصيلات السياسة الإقليمية من خلال متابعة أوراق الملف اللبناني. فالأزمة التي تعصف في بلاد الأرز ليست لبنانية بالكامل وليست ناتجة أصلاً عن وزير بالزائد أو وزير بالناقص وإنما هي إرهاصات تشير إلى حال من الانتظار لما سيحصل عربياً وإقليمياً. فقوى «8 آذار» تعتمد على توازن إقليمي وقوى «14 آذار» تستند إلى تقاطعات عربية. وبما أن الوضع الدولي يسير نحو المزيد من التأجج الإقليمي فإن احتمال انفتاح الأزمة اللبنانية على سياقات متضاربة مسألة غير مستبعدة بغض النظر عن نجاحات عمرو موسى أو فشله.
الأمين العام أعلن عن نصف نجاح وترك النصف الثاني للنقاش والبحث في جولته الثالثة. والدول العربية والإقليمية أعلنت عن دعمها الكامل للمبادرة شرط أن يتوافق اللبنانيون على ترتيب جدول أولوياتها. وهذا النجاح المفتوح على الفشل أو الفشل المفتوح على النجاح يرسم في النهاية خطوط الطول والعرض ويضع تلك النقاط على معالم الطرقات. وبما أن الأزمة إقليمياً وعربياً لم تحسم حتى الآن وهي تنتظر انفراجات أو انفجارات فمعنى الأمر أن لبنان سيبقى عرضة للاهتزازات بين «8 و14 آذار». فالرقم 8 شيفرة ترمز إلى توازنات محلية (أهلية) وإقليمية. والرقم 14 شيفرة مضادة ترمز بدورها إلى توازنات محلية (أهلية) وعربية. والانشداد الحاصل الآن في ساحات بيروت ومناطق الجبل والشمال والبقاع والجنوب يعكس في جوهره تلك التوترات العربية والإقليمية التي ظهرت بوضوح خلال العدوان على لبنان ولكنها لم تترجم ميدانياً وتؤكد نجاح طرف في تحقيق الفوز على طرف آخر.
غادر موسى بيروت قبل الأعياد وسيعود إليها بعد الأعياد. وبين المغادرة والعودة هناك مسافة زمنية لابد أن تقطعها القوى الدولية والإقليمية والعربية. وفي حال اجتازتها يعاد رسم صورة لبنان في ضوء التحولات والتقلبات وإذا تجمدت المنطقة واستقرت على توازنات سلبية فإن هذا الأمر سينعكس طبعاً على صورة لبنان ومستقبله?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1569 - الجمعة 22 ديسمبر 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1427هـ