المعركة الانتخابية التي جرت أمس في لبنان كانت مسيحية بامتياز. وباستثناء منافسات هنا وهناك وخروقات في هذه الجهة أو تلك تركزت المواجهة السياسية في الساحة المسيحية بين قوتين واحدة يقودها البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير وأخرى يقودها الجنرال الماروني ميشال عون.
المناطق المسلمة شهدت منافسات محسومة النتائج بين المناطق ذات الغالبيات المذهبية في هذه الدائرة (القضاء) أو تلك. والمنافسات في المساحات المسلمة لم تكن على درجة حرارة مرتفعة لكون القوى الناخبة في هذه المناطق متصالحة مع قياداتها إلى حد كبير وليس هناك من معارضات سياسية يحسب لها الحساب داخل الطائفة أو المذهب. الشارع السني يؤيد بقوة تيار المستقبل (سعد الحريري) ولا توجد منافسة جدية له إلا في بعض المناطق والدوائر المحدودة التأثير على النتائج العامة. والشارع الشيعي يؤيد بقوة تحالف حركة أمل وحزب الله ولا توجد في المقابل قوة سياسية مضادة قادرة على كسر احتكار الثنائي ومصادرة تمثيله الشعبي. والشارع الدرزي متماسك في تأييده للحزب التقدمي الاشتراكي وزعيمه وليد جنبلاط ولا توجد قوة جدية منافسة تزعزع موقعه العصبي المتوارث منذ عشرات العقود.
لا معركة جدية في المناطق المسلمة ولا تنافس بين القوى على الهوية والولاء والزعامة. فالغالبية السنية أصبحت تتجمع روافدها لمصلحة الحريري في اعتبار أنه بات يشكل الرافعة السياسية للطائفة. والغالبية الشيعية أصبحت منذ فترة في موقع قوي تأسس على ثنائية متحالفة على صون مصالح الطائفة وعدم التفريط بالمكاسب التي حققتها في العقود الثلاثة الأخيرة. والغالبية الدرزية ترى في جنبلاط قوة ذاتية تمتلك شبكة من الاتصالات والعلاقات قادرة على حمايتها وضمان استمرار دورها في اللعبة السياسية اللبنانية.
هذا الولاء غير موجود في الطوائف المسيحية التي يبدو أنها أخذت تعاني ثقافيا من نمو قوى ديموغرافية مضادة أخذت تهدد وحدة الكيان وهويته وصيغته. وهذه المعاناة الذاتية بدأت منذ فترة ترسم ولاءات متخالفة في تصوراتها عن لبنان الجديد. فهناك تيار يطالب بالفديرالية واللامركزية حتى تضمن كل طائفة حريتها واستقلالها الثقافي وخصوصية شعائرها الدينية. وهناك تيار سيادي تصالحي (تسووي) يطالب بالوحدة اللبنانية وحماية الصيغة واحترام خصوصيتها الكيانية وهويتها الفريدة في تركيبها الطائفي والمذهبي. وهناك تيار تصادمي يدعو إلى استرداد الحقوق (المسيحية) وانتزاعها من المسلمين حتى يستعيد الكيان توازنه المسلوب والمكسور.
انشطار المخاوف المسيحية على تجاذبات تتراوح بين الدعوة للمحافظة على الكيان وتاريخه الخاص وبين دعوة ترفع شعارات أيديولوجية تركز على الحرمان والظلم وحق الاسترداد أعطى التنافس على المقاعد في الشارع الماروني شرارة داخلية رفعت من درجة الحرارة. فالمعركة لم تعد بين المسيحيين والمسلمين وإنما بين المسيحيين والمسيحيين وتحديدا بين صخرة بكركي ومدفعية جنرال.
وهذه المعركة تعتبر مهمة جدا لكونها تؤشر إلى وجود قوة صاعدة قادرة على منافسة كنيسة تاريخية لعبت دورا خاصا في حماية الموارنة وتوحيدهم في مختلف الحقبات الزمنية وعلى امتداد أكثر من ألف عام.
من يحطم الآخر؟ الجنرال أم البطريرك. هذا السؤال ينتظر أجوبة نتائج الانتخابات في لبنان التي ستعلن رسميا اليوم.
فوز الجنرال عون بغالبية المقاعد النيابية في الدوائر المسيحية يوجه رسالة سياسية عنيفة ضد الكنيسة المارونية التي تعتبر تاريخيا ذاك الإطار الذي تأسست عليه الكثير من الرموز اللبنانية. وفشل الجنرال في أخذ الغالبية يعطي فكرة عن مزاج مسيحي يشير إلى حرص الناخب الماروني على تأكيد خصوصية هوية الكنيسة اللبنانية في إطارها العربي.
المعركة بين الجنرال والبطريرك لها أبعادها الذاتية في المناطق المسيحية لكونها تشكل محطة مفصلية في توضيح خيارات الموارنة وتحديد الأولوية: لبنان أولا أم الطائفة أولا.
بيان البطريرك الماروني نصرالله صفير قبل يوم من الاستحقاق الانتخابي حذّر من تهديد الكيان اللبناني وهويته العربية. ونبه من المكائد التي تريد أن تغير «وجه بلدنا». ودعا إلى تثبيت الهوية حتى يبقى لبنان «وطن الحرية والقيم الأخلاقية والسيادة التامة والاستقلال الناجز».
كلام البطريرك يشير إلى خوف الموارنة على هوية لبنان انطلاقا من رؤية تاريخية - جغرافية بدأت تتعرض لانقسامات ايديولوجية يمكن أن تقوض قواعد الكنيسة في حال امتدت باتجاه المرتفعات وغابات الأرز.
المعركة كما رسمها بيان البطريرك تتركز على إبراز المخاطر التي تهدد الهوية والكيان والسيادة والاستقلال ونمط الحياة وخصوصية الكنيسة المارونية. وبهذا المعنى يرى سيد بكركي أن وجود لبنان يتعرض للتهديد ما سيؤدي إلى انهيار صيغة التعايش المشترك وتفكيك الكيان وبعثرته إلى «شعوب» طوائف ومناطق.
الجنرال يقرأ المعركة من جانب آخر. فهو من جهة يرى أن الاستقطاب يتركز على الزعامة وصاحب القرار الأول في الشارع المسيحي ومن جهة أخرى يوجه أسلحته ضد الشارع المقابل (المسلم) لاسترداد ما خسره الموارنة من حقوق.
الاختلاف بين الخطابين مهم للغاية لأنه يعكس في تفصيلاته الكثير من الصور الغامضة. بكركي تركز على استعادة هوية لبنان العربية وضمان الحريات العامة وحماية تقاليد الأقليات وعدم التفريط بالصيغة وفكرة الكيان المستقل في إطاره العربي. الجنرال يركز على موضوع حقوق الطائفة المسيحية وأولويتها في دائرة التوازن المذهبي اللبناني ودورها في قيادة الكيان حتى لو تزعزع الاستقرار وانهارت الصيغة.
الاختلاف بين البطريرك والجنرال يشكل محطة فاصلة في تاريخ الموارنة بين تيار يضع الأولوية للكيان اللبناني وهويته العربية وتيار يضع الأولوية لحقوق الطائفة بالضد من المسلمين. وهذا الاختلاف يؤشر إلى وجود قوة سياسية من داخل الشارع الماروني أخذت تتمرد وتتحدى الكنيسة واضعة الأولوية للمعركة الداخلية (مصالح طائفة، مواقع نفوذ، تنافس على المقاعد) على رأس برنامجها الانتخابي بينما تأتي النقاط الأخرى في ذيل المطالب المسيحية.
فوز الجنرال بغالبية المقاعد المارونية على رغم تحذيرات وتنبيهات المرجعية الكنسية يرسل إشارة واضحة على أن الشارع المسيحي لم تعد تعنيه كثيرا الفكرة اللبنانية أو الدولة اللبنانية أو السيادة اللبنانية. فالفوز يعني بداية انقلاب في المزاج المسيحي وأن الشارع بات في موقع ثقافي يسمح له نفسيا التضحية بمشروع بلاد الأرز وتسويقه في مجالات أخرى لا تتناسب مع ايديولوجية تأسس عليها الكيان والصيغة وصخرة بكركي.
من يحطم الآخر؟ اليوم نعرف الجواب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2467 - الإثنين 08 يونيو 2009م الموافق 14 جمادى الآخرة 1430هـ