العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ

الرادار النفسي للإرهاب

مع أرنستو ساباتو في حواره... بين الحرف والدم

كاظم الواسطي comments [at] alwasatnews.com

.

ما الذي ننتظر من «طفل كبير وحيد ينتظر قطاراً لا يصل أبداً»، طفل علمته الوحدة أن يذهب إلى حدود الجنون، ليعود منها روائياً كبيراً يحاكم عقل عصره على ما ارتكبه من خطايا بحق الإنسان المصنوع من لحم ودم وأحلام تسعده على هذه الأرض؟ يبدو أن صوت القطار الذي لا يصل، يسمعه لوحده، هناك... في محطة طفولته النائية، متوحداً بخيالاته، وأحلامه، وتمرده على عالمٍ يهتم كثيراً ببناء الحواجز، والحدود الصارمة بين البشر.

ولأنه متمرد، وصاخب، بحسب قول زوجته ماتيلدي كوسمنسكي ريختر، كان إرنستو ساباتو يبحث عن منفذ التعبير الوحيد الذي يساعده على «تقيؤ عذابه الداخلي»، فكان عالم الرواية منفذه الذي لم تستطع اهتماماته، وانشغالاته بالفيزياء، والرياضيات أن توفرانه له. ولأنه كان يتوق للحنو والعطف، مثل طفل متشرّد، فقد قبل أن يكون رئيس «اللجنة الوطنية للمفقودين» التي كانت تحقق في جرائم الدكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين يومذاك، وشرّدت الكثير من أبنائها.

لقد كان لولادة « أرنسستو ساباتو» بعد موت أخيه «أرنستو «، وتسميته بنفس الأسم، وقعاً سيئاً في حياته. فقد ظل يعاني من مرارة الحادث، وشؤم ما قد يقع له بنفس الاسم. كما أن قدرة أمه التي لا حدود لها على الحب، قد أسرته بتمسكها اليائس به مقارنة باستقلال إخوته في الحركة، واللعب، ما جعل منه انطوائياً، وخجولاً. وقد انعكس كل ذلك على علاقته اللاحقة بكتبه، التي أراد لها أن تكون دفاعاً عن وجوده هو، ولم ينصح أحداً بقرائتها «حرصت على أن لا يقرأها أولادي».

وفي شبابه، تضخمت ميوله بالأفكار الماركسية، ثمّ انتمى إلى الحركة الشيوعية، التي قطع صلته بها بسبب جرائم ستالين، ليتابع دراسة الرياضيات التي «لا يطالها فساد».

وظل ساباتو يعاني من أزمة روحية حادة. فهو يعرف أن العلوم التي ولدت من شيءٍ رائع كالرياضيات، قد سببت «جنون الإنسان التقني»، وجردته من إنسانيته، حين حرمّت التفكير السحري وأبقت على ما هو منطقي فقط.

ولأن الإنسان بلحمه وعظمه، هو ما كان يعنيه، فقد عاد إلى موهبتيه المبكرتين الأدب والرسم. وقد استهوته فكرة أن هناك تقدماً أو تغيراً مستمراً في الفكر الخالص، وفي العلوم، وهذا ما لا يحصل في الفن. فرياضيات «أنشتاين» تتفوق على رياضيات «أرخميدس»، ولكن عوليس «جويس» ليس أسمى من عوليس «هوميروس» . ولهذا نرى، بتأكيد ساباتو، أن جزءاً من فن عصرنا هو عودة إلى فن الشعوب التي يدعونها «بدائية»، مثلما هو حال رسوم طفل لم تشوهه المدرسة الابتدائية بمناهجها الحالية التي تحد من ذكاء الأطفال، إذ نجد في تلك الرسوم شبها للوحات «جان ميرو» و»مارك شاغال».

وكما تشعر العصافير، والكلاب، والقطط، التي تملك حواساً أرهف من حواسنا، بالهزات الأرضية، كذا هو حال الفنانين، والمفكرين الحساسين الذين يشعرون بالهزات الروحية الكبرى. لكن ما يميز أدب وفن عصرنا هو أنه أخذ منحى الغوص في الأنا، وخدرّه الحنين، والكآبة، وروح الكوابيس، والبحث اليائس من فان كوخ إلى فرانسيس بيكون، ومن كيركغارد إلى سارتر، ودستويفسكي، وكافكا. وهم جميعاً ينتمون إلى الحقبة الروحية ذاتها. وإن الجمهور قد جرّد من إنسانيته نتيجة للترويض، والصحافة ، وأجهزة الإعلام، التي حولت الإنسان إلى «آلة مبرمجة». ويؤكد ساباتو أن الفنانين الكبار هم غرباء الأطوار، لأنهم يحتفظون في نفوسهم بتلك «السذاجة القدسية»، سذاجة الطفولة، وسذاجة البدائيين أيضاً، وهم بذلك يثيرون ضحك الأغبياء.

ويحمل أرنست ساباتو على منظري «الواقعية الاشتراكية» الذين يعتبرون أعمال بيكاسو، وجويس تعبر عن «البرجوازية العفنة»، وهو يشيد بتلك الأعمال لأنها تعبر بأصالة وعمق عن روح عصرنا. كما أنه لا يفترض أبداً أن يغير الفن العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما، فهذا الأمر مهمة تقوم بها أدوات أخرى: «الساسة والمنظرون».

ويذكّر الشابات والشباب ممن تقلقهم «القضية الاجتماعية» أن ثورياً معروفاً ككارل ماركس، كان معجباً بشكسبير ويردد غيباً مقاطع من أعماله كما كان مطلعاً على الشعر الغنائي الإنجليزي والألماني، ويحترم ويقدر غوته، الذي كان مستشاراً للبلاط المتطرف في رجعيته، ويعتبر الملكي بلزاك مثالاً للروائي. ويستنكر ساباتو ما يجري في عصرنا من تحويل للإنسان، الذي أتى بكل هذا التقدم العلمي، إلى مجرد مادة. وإن هذا الأمر سيقود إلى أشد الأزمات البشرية مدعاة للقنوط، والكآبة، والتي لا يمكن الخروج منها إلا بإنقاذ هذا الإنسان «المكون من لحم وعظم» من بين صرير مسننات هذه الآلة الضخمة، التي تقوم بإفناء أرواحنا، وتدمير الطبيعة من حولنا.

وفي الوقت الذي يعتبر ساباتو موت طفل واحد من الجوع، يضع الإله ذاته موضع الشك، إلا أنه يحذرّ من القاء اللوم على الفنانين الذين يقومون، في وقت يموت فيه الأطفال من الجوع، بتشييد أعمالهم التي تساهم في إعلاء، وتكريم روح البشرية بأسرها.

ولا أدري ما الذي سيقوله ساباتو، لو كان موجوداً الآن، وهو يطلع بالصورة على أشلاء أطفالنا المتناثرة على الأرصفة، وفي الأسواق العامة، بمتفجرات من يدعّون انتماءهم إلى جنة الإله، وحقهم بقتل كل من لا ينتمي لفردوسهم! المزدحم بالرؤوس البشرية المقطوعة؟

يحذر ساباتو من إغراق الذاكرة بالتفاصيل والأرقام والتواريخ والملغرامات، مثلما يمارسها مسئولو التربية الذين «يحاولون تعليم كل شيء، وتكون النتيجة في نهاية المطاف، أننا لا نعرف شيئاً». وإن المثقف هو من يكون له موقع في مجموعة «النظم المرنة»، وأن يكون على إدراك بالواقع، والتحكم فيه، وتقييمه وليس هو «الفرد الموسوعي» الغارق في تلك التفاصيل.وعن مهمة المعلم التربوية، يذكّر بما قاله سقراط في هذا الشأن، حين بيّن أن مهمة المعلمين هي «مهمة القابلة لا مهمة الصانع»، الذي لا يستخرج القدرات الكامنة، ولا يرعى البذرة الموجودة في الطفل كي تنمو وتؤتي ثمارها. وما يقوم به المعلمون اليوم، هو تخدير طفولتنا بأحكام العادة، إذ لا يثير استغرابنا، ولا نضحك، إن حدثنا أحد عن «ثعالب طائرة» أو عن «بشر لهم رؤوس كلاب». وإذ يزداد عدد الدول التي يقودها متعصبون للايدولوجيا والعقائد، فإن المعلمين فيها يضطرون إلى لحقن التلاميذ بتلك العقائد بدلاً من البحث من البحث عن الحقيقة . وإذا ما استمر هذا «الهذيان الوضعي اليقيني»، فأنه، برأي ساباتو، سيقود إلى همجية جديدة في عصرنا تؤدي بنا إلى الجنون.

ومن هنا يؤكد ضرورة خلق توازن بين المبادرة الفردية والعمل مع فريق تخدمه ضمن مفهوم «العمل الودي الجماعي» الذي يتغلب على غرائز الإنسان الأنانية، وإن لم يحصل مثل هذا الأمر، سترجح كفة «الفردية الشرسة» التي ستخلق في طبيعة الإنسان خواصاً من نوع مختلف، شجعّت هوبس يوما للقول: «الإنسان ذئب الإنسان». ودفعت فلاسفة الليبرالية التجارية والصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على اعتبار المجتمع «فريق من أفراد في حالة حرب»?

العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً