العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ

البعد الديمقراطي في المجتمع

مروة كريدية comments [at] alwasatnews.com

باحثة لبنانية في الانثروبلوجيا

تُعدّ الديمقراطية واقعًا تسعى معظم المجتمعات الإنسانية إلى بلوغه، ليس بوصفه ذلك المقدس الذي لا يُعاب، بل بوصفه بُعدًا يضفي الصبغة الإنسانية على حياة المجتمعات البشرية، ويجعلها ممكنةً في إطار التضامن والتعايش بين الأفراد والنخب والكفاءات من جهة، ومكونات المجتمع الأخرى المتنوعة إثنيّاً ولغويّاً وعقائديّاً وايديولوجيّاً.

فالديمقراطية هي إحدى صِيَغ التعاقد المجتمعي، بيد أنَّ هذا التعاقد ليس تامّاً أو نهائيّاً، بل هو عقدٌ مجتمعيٌّ متجدّدٌ ومتطوّرٌ وسيرورةٌ دائمةٌ، بحيث يعكس حضوره أو غيابه تأثيرًا واضحًا في صيرورة المجتمعات البشريّة.

فالديمقراطية ليست تنظيمًا سياسيّاً للمجتمعات، بل هي أحد أبعاد المجتمع ليس إلا، ما يجعل المنظومة الديمقراطية السياسية في المجتمعات جزءًا من منظومة أخرى أشمل منها، لا تقتصر على الحياة السياسية فحسب، بل تَطول المرافق المجتمعيَّة كافَّة على حدٍّ سواء، وبناءً عليه فلا يمكن للديمقراطية السياسية أن تُستورد أبدًا في ظل غيابيها الثقافي والفكري، وفي ظلّ القمع السائد في مؤسسات المجتمع الأخرى بدءًا من الأسرة وصولاً إلى المؤسسات الدينية، فلا يمكن لشعبٍ ما تربى أبناؤه على القمع المنظم ردحًا طويلاً من الزمن وأمضى حياته في التسبيح بحمد «الزعيم» أن ينعم بديمقراطية بين ليلة وضحاها، فالتنشئة الديمقراطية للفرد تبدأ منذ اللحظة الأولى لولادة الكائن الإنساني.

فعند تحليل ظاهرة القمع والعنف في بعض الأنظمة الشمولية، نجد أن العنف والعنف المضاد والمتحول، يسودان أفراد المجتمع كافّة، فالأم تمارس القمع على الأبناء كما أنها بدورها مقموعة من قِبل الزوج «الكريم»، والزوج بدوره مقموع من قِبل رئيسه «المحترم»، والسلطات الإدارية والمدنية مقموعة من قِبل السلطات السياسية وأجهزة ما يعرف بـ «المخابرات» و»أمن الدولة»، والسلطات السياسية بدورها مقموعة وحريتها مصادرة من قِبل الدول الأكبر منها، وهكذا دواليك في سلسلة من القمع والظلم ودوامة من العنف لا تنتهي.

وهذا المجتمع يُعيد إنتاج أفراد غير قادرين على اتخاذ القرار، حتى على تقرير المصير، فلا حكومات تلك الدول قادرة على تحديد خياراتها الاستراتيجية الكبرى وتقرير مصائر شعوبها، ولا الأفراد يمتلكون القدرة على التصدي لمشروعات الوصاية في ظل استحواذ عقلية التبعية على النفوس، والخوف من شبح «السلطان» وسجونه.

سواءً أكانت هذه التبعية فكريةً أم اقتصاديةً أم اجتماعيةً أم دينيةً أم غير ذلك، وما النزاعات الدائرة والصراعات المستفحلة اليوم في بعض المجتمعات إلا نزاعٌ على صنم العبودية وتحديد التبعية، و»الطاعة تكون لمن؟» و»التبعية لمن؟» فهي عملية صراع؛ لاستبدال التبعية بتبعية أخرى؛ واستبدال طاغوت بطاغوت آخر؛ والمرجعية بمرجعية أخرى.

في حين أن الديمقراطية تنبني على التحرر من التبعية بالدرجة الأولى واحترام الحريّات الفردية، فهي مرتبطة بالليبرالية ارتباطًا عضويّاً، بحيث يكون الفرد قادرًا على تحديد خياراته بوضوح من خلال الوعي المكتسب بالتربية، وترجمتها من خلال برنامج عملي، وهذا يطول مناحي الحياة كافة من دون استثناء.

فمظاهر حضور الديمقراطية أو غيابها تُعدُّ معيارًا لوضع كلّ مجتمع بالنسبة إلى نفسه وإلى ذاته، بحيث يكون التوازن بين أجزائه ومكوّناته هو ما يُنتج الديمقراطية ويدل على وجودها، ويكون غيابها مؤشّرًا على فقدان التوازن، كما يعطي الدلالة على سير المجتمع نحو التطوّر، مع الأخذ في الاعتبار أن ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية اليوم هو نتيجة تراكم تطورات لتحولات دامت قرونًا طويلةً.

لذلك ينبغي ممارسة التفكير النقدي في الديمقراطية، وذلك من خلال البحث في الأشكال المتنوعة للنظم المجتمعية والسياسية التي توصف بالديمقراطية، ودراسة التطورات والإشكالات التي عرفها كل مجتمع، والتي كانت بدورها مختلفةً في مظاهرها ومراحلها، ما يمكّننا من الإجابة عن الإشكال المتعلّق بوحدة النظام الديمقراطي من حيث شكله أو بالإمكان تعدد أشكاله وعدم حصر الصلاحية في نظام واحد. ولابد من فهم الديمقراطية على أنها نموذج مازال يتطوّر، وهو في تحولات مستمرة يتطور عبر نقد أضداده، كما يتطور عبر النقد الذاتي لمكوّناته، فالنموذج الديمقراطي ليس واحدًا وثابتًا وليس قالبًا يُصب على رؤوس الشعوب ليصبح واقعًا مستمرّاً، فهو لا ينحصر في نموذج واحد متحقق بل هو واقع ناتج عن أشكال متنوعة من التطور. فمادام الأمر على المستوى السياسي يتعلّق بنوعٍ من الحكم يُشرك الغالبية بدلاً من أن يكون قائمًا على رأي الأقليّة، ويروم التشاور بدلاً من الاستبداد، فإن البدايات يمكن أن تكون مختلفةً ومتنوعةً بما يتلاءم مع تطور المجتمع، وذلك تبعًا للتاريخ والتجربة التي تكون مرّت بها كل حضارة أو أمة أو جماعة.

فالديمقراطية أحد أشكال التوجه إلى المستقبل من خلال الجهد الإنساني الدؤوب والساعي إلى إنجاز نظام أفضل وأكثر توازنًا للمجتمعات، فالديمقراطية ليست تاريخًا منتهيًا بل تاريخًا مستَأنفًا باستمرار، فالتاريخ المطلوب من الديمقراطية حاليّاً لا ينحصر في الماضي، الذي تشكلت خصائصه كنظام من خلاله، بل إنه المستقبل والتاريخ القادم الذي ستنتجه الإنسانية وستصنعه البشرية في ظلّ سيرورة تطوير الديمقراطية نفسها المتبلورة من خلال توازنٍ يتجه باستمرار نحو توازنٍ أفضل?

إقرأ أيضا لـ "مروة كريدية"

العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً